إجراء سوداني حازم لوقف اختراق إيراني

إجراء سوداني حازم لوقف اختراق إيراني

20 سبتمبر 2014

طلاب المدرسة القادرية الصوفية في الخرطوم (13 نيسان/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

حين أعلنت السلطات السودانية عن إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان (لم يجر تحديد عددها)، مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، والطلب من مسؤوليها مغادرة البلاد خلال 72 ساعة، سارع نائب وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى نفي الخبر جملةً وتفصيلاً واعتباره عارياً عن الصحة! وهو نفي، بحد ذاته، إذ يدلل على حجم المصداقية في الخطاب الدبلوماسي الإيراني، فقد مثّل، في الوقت نفسه، محاولة للضغط المكشوف على الخرطوم لثنيها عن تنفيذ القرار، بيد أن المحاولة أخفقت، ومضت السلطات في تنفيذ قرارها السيادي.

وقد التقت أوساط رسمية وغير رسمية في الخرطوم على أن خروج هذه المراكز عن أهدافها، وإقدامها على اجتذاب مواطنين بطرق "دنيوية" نحو التشيع، هو ما حمل السلطات على اتخاذ القرار وتنفيذه.

في ظروف أخرى، وبما يتعلق بمراكز ثقافية يتم إغلاقها في هذا البلد أو ذاك، فإن ضجة لا تثور، وتقتصر ردود الفعل على أوساط ثقافية وإعلامية، غير أن طهران الرسمية غير المولعة بالثقافة، أو بحرية الثقافة والمثقفين، سارعت، بعد ذلك النفي الزائف، إلى مزيد من الكشف عن أهدافها، بإقامة مراكز ثقافية في السودان، إذ تحدثت الناطقة بلسان وزارة الخارجية، راضية أفخم، عن" موجة تكفيرية في السودان"، وعن أن طهران "لن تسمح بوقيعة بين السنة والشيعة في هذا البلد". ويلقي هذا التصريح مزيداً من الضوء على النزعة التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها تدخلية فجّة، تتسم بها السياسة الخارجية الإيرانية في شؤون دول ومجتمعات أخرى (عربية بالدرجة الأولى). وهي نزعة تقترن بالمبادرة لاقتحام مجتمعات، والسعي الحثيث إلى إعادة هندستها، واستمالة أفراد وجماعات، وإلحاقهم بمحور خارجي، قطبه طهران، فإذا ما اعترض أحد على هذا التدخل الفج، فإن طهران تسارع إلى القول إنها تحذّر من حدوث وقيعة، وهذه عبارة يمكن قراءتها، في ضوء السياسات الفعلية المتبعة، على أن طهران تهدد بوقيعة، وأنها ستقف مع الطرف الذي اصطنعته ضد الأغلبية، وسوف تواصل الضغط على البلد المعني، وبذلك، تمضي في نهجها التدخلي الاستعلائي.

يُذكر، هنا، أن عدد السودانيين الذين تم تشييعهم هو 12 ألفاً، كما تجمع مصادر سودانية، ومع أنه ليس ضئيلاً في حساب الاستمالة وتأليف القلوب والتثمير "الثقافي"، إلا أنه مما يثير التأمل ان مسؤولين إيرانيين يكادون "يتنبأون" بوقوع وقيعة بين 12 ألفاً من هؤلاء المستجدّين على مذهبهم، وبين 34 مليون سوداني (بعد انفصال الجنوب) غالبيتهم الساحقة مسلمون!

الطريف، بعدئذٍ، أن أفخم تأخذ على السودان والسودانيين الانشغال بهذه المسألة، بدلاً من التركيز على التحدي الصهيوني ومواجهته، ما يحمل على التساؤل أمام هذا التذاكي المفرط: لماذا لا تتفرغ طهران لمواجهة العدو الصهيوني، بدل الانغماس المديد والدائم في العبث بالأمن الاجتماعي لدول ومجتمعات إسلامية، واستمالة مسلمين أفراد بطرق دنيوية إلى مذهبٍ ما؟

من حق المواطن المسلم في ظروف عادية أن يعتنق المذهب الذي يشاء بملء إرادته ووفق قناعاته، لكن ليس من حق دولة ما أن تتولى تصدير مذهبها، وإقحامه بأسلوب أقرب إلى العنوة، واستزراعه في بيئة أخرى. واستغلال يافطة العمل الدبلوماسي لبلوغ أهدافٍ تتعدى اجتذاب مواطنين، واستمالتهم نحو مذهب معين، إلى إلحاقهم بمرجعية مذهبية وسياسية خارج وطنهم، ودفعهم إلى الانقطاع عن انتمائهم الوطني، وهي ممارسات لها توصيفها شديد السلبية في المدونات القانونية والقضائية في أنحاء العالم.

لقد استغلت طهران الأوضاع الصعبة التي ما برح السودان ينوء تحت وطأتها، والتواصل العربي الضعيف مع هذا البلد (يندر أن يزور مسؤول عربي السودان) فوضعت هذا البلد، كما اليمن، على جدول نشاطها التوسعي.

وتذكر الكاتبة السودانية، منى عبد الفتاح، في مقالة لها في "الجزيرة نت" 13 سبتمبر/أيلول الجاري، أن طهران افتتحت أول مركز ثقافي لها في الخرطوم في 1988 إبان حكومة الصادق المهدي، وإن عدد المراكز أخذ يزداد بشكل مضطرد، بعد "ثورة الإنقاذ" في العام التالي، وقد اشترطت طهران على الخرطوم "تقارباً فكرياً" من أجل تقديم الدعم، والمعلوم أن صيغة "التقارب الفكري" تعني ما لا حصر له من أوجه الاقتراب السياسي والثقافي والديني والاجتماعي والحضاري. وهي صيغة للعلاقات الدبلوماسية لا مثيل لها بين بلدين، لكن اشتراطها والقبول بها يفتح الباب أمام مطالباتٍ وتدخلاتٍ لا حصر لها، بحيث تكون الدولة المستضعفة وهي السودان، تحت رحمة إملاءات الدولة الكبيرة القوية التي تجزل العطاء ما أن تتلمس وقوع "تقارب فكري". وتحت هذا العنوان، غضت السلطات النظر عن حملة التشييع التي أطلقتها المراكز الثقافية الإيرانية، وعددها نحو 30 مركزاً، وفي ظل اتفاق تعاون دفاعي وأمني وقع عام 2008 بين البلدين.

وكان أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، قد سخر في أحد خطاباته، أو "إطلالاته"، قبل نحو عامين، من "أقاويل نشر التشيع" عبر الاستمالة وتأليف القلوب وما عداها، متسائلاً: كم يمكننا أن نجذب مسلمين سنّة إلى مذهبنا.  100 أم 200 أم 300؟ مجيباً أن زيادة النسل في صفوف الطائفة يحقق هذا الهدف، من دون تحمل أية كلفة أو أعباء.

ها هي الوقائع في السودان تنطق بشيء آخر، وهي وقائع قديمة تكشفت، في وقت متأخر، وتشير إلى أن تصدير الثورة بات يتم من باب تصدير المذهب، ولو لم يكن هناك طلب على هذا الاستيراد.

قبل نحو ربع قرن، لم يكن أحد يعرف، أو يتقصى عن تنقل مسلمين بين المذاهب.  باحتساب ذلك أمراً عادياً، ومن صميم حرية الإيمان والمعتقد، غير أن المسألة تدور، الآن، حول تصدير مذهبٍ ما، واستزراعه هنا وهناك، ليس لغاياتٍ دينية مذهبية محضة، بل لأهداف سياسية على درجة من الوضوح، هي تأمين اختراقٍ إيرانيٍّ، متدرج ومنهجي، للمجتمعات، بما يشكل ضغطاً على هذه المجتمعات من داخلها، وكذلك على دولها وتحت طائلة التحذير (التهديد) بوقوع وقيعة، إذا ما تم الوقوف في وجه هذا الاختراق، مع الإعلان الإيراني المسبق بعدم السكوت عن ذلك، كما تدل المجريات السودانية واليمنية. والرد على هذه المحاذير يتم باحتضان عربي للسودان واليمن، والحؤول دون استفراد إيرانيٍّ بهما، أو بأحدهما.