غيتو عين الحلوة

غيتو عين الحلوة

24 أكتوبر 2014

مدخل مخيم عين الحلوة (يونيو/2007/أ.ف.ب)

+ الخط -

تكتمل صورة الغيتو في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث ولدت قبل 63 عاماً، حين يُقتل فلسطينيون داخل المخيم، في صراعات محلية بين قوى أصولية وغيرها من القوى السياسية الفلسطينية داخل المخيم، ولا يسمع بهذا القتل أحدٌ. قبل نحو أسبوعين، هالني أن أصدقاء فلسطينيين، في الأردن والضفة الغربية، وحتى في بيروت، لم يسمعوا بحادثة قتلٍ سقط فيها شابان من المخيم، تم دفنهما فيما بعد في مقبرة المخيم، وكأن القتل العبثي جزء من حياة الغيتو، ولا يعني الخارج مطلقاً.
أتذكر في عين الحلوة ما قرأته وما شاهدته من أفلام، وما رأيته في زيارتي وارسو قبل 11 عاماً، ما عرف في أربعينيات القرن الماضي بـ"غيتو وارسو" الذي أسسه النازيون مركزاً مؤقتاً لتجميع اليهود، ليتم نقلهم، فيما بعد، إلى معسكرات الموت والإبادة في أوشوفيتز، وغيره من معسكرات "الحل النهائي" للمسألة اليهودية.
كان لغيتو وارسو نظامه الخاص في قلب المدينة، وكانت له مخارجه ومداخله، المحروسة من الجنود النازيين واليهود الذين تعاونوا مع النازية. وكان هذا الغيتو مكتفياً بذاته من مطاعم وحوانيت ومدارس وقاعات للرقص والحفلات الموسيقية والأنشطة الثقافية الأخرى وأماكن للهو. وكان مجتمعه المؤسس صورة عن المجتمع الخارجي، بطبقاته الاجتماعية الثرية وفقرائه ومعدميه، وحتى ماسحي الأحذية، وكانوا جميعاً من اليهود.
ظلَّ مخيم عين الحلوة، مثل بقية المخيمات الفلسطينية في لبنان، موضوعاً خارج انتباه الباحثين، وكأنه واحد من مطارح الخيال، لا يستدعي سوى اهتمام الشعراء والسينمائيين، حتى إن الرواية التي تتطلب، إلى حدٍّ ما، بحثاً سيسيولوجياً وتاريخياً ومعرفياً، بقيت بعيدة عن حدود المخيم، بما هو واقع اليوم.
مخيم عين الحلوة الذي يضم أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان في بقعة جغرافية محددة، منذ تأسيسه، في إطار اتفاقات عقدتها وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين (أونروا) والحكومة اللبنانية، يخضع، اليوم، إلى أبشع إجراءات الضبط الأمني من الجيش اللبناني. فإضافة إلى الأشرطة الشائكة التي أقيمت على كامل حدود المخيم، تجد الجدران العازلة الإسمنتية التي صممت تماماً على الطراز الإسرائيلي في الضفة الغربية، ولكن بحجم أصغر. كما أن مداخل المخيم الرئيسية كلها، وهي خمسة، محصنة بأبراج إسمنتية ودبابات وحواجز للجيش، تجعل من الدخول والخروج، بحسب الوضع الأمني، عذاباً حقيقياً، حيث تخضع السيارات والمارة إلى تفتيش وتدقيق للهويات والأبدان في بعض الحالات. أما مداخل الأزقة، وهي كثيرة، فقد أقيم لها بوابات حديدية بأقفال، يتم استخدامها بإحكام، كلما ارتأى الجنود اللبنانيون الذين يحرسونها أن هناك حاجة لذلك.
يعيش فلسطينيو المخيم حالة من اليأس في بيوتهم التي ضاقت بهم وبأحلامهم. صحيح أن انعدام المرجعية السياسية داخل المخيم، وتفريخ المجموعات الإسلامية الأصولية التي لم يعد سكان المخيم يحفظون أسماءها لكثرتها، يجعلان الحياة داخل هذا الغيتو أقرب إلى الجحيم، لكن الإحساس بانعدام الأفق، والمساحات الرحبة التي تُطل على الخارج، والإجراءات اللبنانية الرسمية، تُضاعف من حالة القهر ووأد الأحلام التي كانت الأزقة تحتضنها في زمن غابر، وتزرع حالة من الخوف من مستقبل غامض محشور بزقاقٍ، لا أحد يعرف نهايته.
منذ سنوات قليلة، أعيش خارج عين الحلوة، ولكني أذهب إلى بيت العائلة بين فينة وأخرى، أذهب باحثاً عن الأحلام التي عاشت معنا، وعشنا معها، عندما انطلقت الثورة الفلسطينية في الستينيات، والتي ضاعت اليوم في ضيق المكان، وزحمة سوق الخضار، وصخب ملصقات القتلى، والشعارات الإسلامية، وصور أسامة بن لادن وياسر عرفات وأبو جهاد وصواريخ القسام والجدار العازل، والبوابة الحديدية التي ضبطت نفسي مرةً أغلقها ورائي، بعد دخولي المخيم، متوجهاً إلى بيتنا في زاروب أضيق من ذاكرةٍ انكمشت على نفسها.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.