خطاب عباس وما بعده

خطاب عباس وما بعده

01 أكتوبر 2014

أمر الخطاب يتعلق بسياساتٍ على الأرض، وليس مجرد كلام(Getty)

+ الخط -

من بين ردود أفعال كثيرة اشتعلت في إسرائيل، استنكاراً لفحوى خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ جاءت صيغة ردة فعل داني ديان، الرئيس السابق لـ "مجلس المستوطنات"، لتعكس ما هو راسخ في الوعي الجمعي المتطرف، عن قيمة الكلام بشكل عام، وعن أثر أي خطاب سياسي يلقيه أيّ كان، حول السياسات الإسرائيلية عموماً، وعن الممارسات الإجرامية والنشاط الاستيطاني خصوصاً، فقد وصف داني ديان الرئيس عباس بأنه "تحول إلى مذيع لدى حماس"!

ربما لو أن خطاب عباس زاد كلمتين أخريين تصفان السلوك الإسرائيلي في الواقع؛ لقال ديان إن الرجل بات مذيعاً لدى "داعش". فمن الواضح أن هؤلاء ينامون ويقومون على قناعةٍ بأن ممارساتهم ليست إلا ترجمة فعلية لمشيئة الرب وإرادته، وأن نيرانهم التي حولت أطفالاً حالمين إلى أشلاء هي نيران مطهرة، تماماً مثلما يتوهم الدواعش، أنهم عندما يقتلون بفظاعة؛ إنما يطهرون الأرض والدنيا بنيرانٍ وسكاكين إلهية. فالمشكلة تكمن هنا، وهي معضلة تاريخية، تستوجب إجماعاً على مجابهتها من الأمة المهانة والذبيحة!

المحتلون الإسرائيليون اعتبروا خطاب الرئيس الفلسطيني طلقة افتتاح لحرب دبلوماسية في المحافل الدولية، فإن كانت كل الشروحات حول هذا التقييم معلومة ولا حاجة للإفاضة فيها؛ يصبح المهم والضروري والحاسم التطرق إلى ما ينبغي أن يفعله الفلسطينيون على الأرض. فلطالما تحدثنا عن وجوب استغلال وقت الصمت السياسي وانسداد الأفق لمعالجة القضايا الداخلية الفلسطينية، وفي مقدمها العودة إلى عمل المؤسسات، وخصوصاً مؤسسة التشريع والرقابة، وتوسيع دائرة التشاور، والعمل على وحدة المؤسسة الأمنية الفلسطينية، على قاعدة المعطيات السياسية القائمة التي تدفع إلى تكريس عقيدة عمل أمنيٍّ، تنسجم مع مقاصد الخطاب الفلسطيني في الجمعية العام للأمم المتحدة، وأن تنشئ الكيانية السياسية الفلسطينية ركائز التأهب لما هو آتٍ، بإصلاحاتٍ تنهض بها حكومة مقتدرة، تكرس تقاليد الرشد المالي والإداري التي تليق بشعبٍ محاصرٍ، ليس لديه موارد اقتصادية تكفيه، ولديه مهام صعبة وجسيمة كثيرة، وهو عُرضة لمحاولات خنق اقتصادي مع الخنق السياسي!

إن لخطاب الرئيس عباس ما بعده. وهذا الذي بعده يمثل اختباراً عسيراً ومعركة جهاد أكبر، فالخطابات مجرد إعلان مواقف أو إعلان نيات. وباتت حاجة الفلسطينيين، بعد أن تحادثوا باستفاضة مع كل الأطراف الدولية في كل القارات؛ أن يتحادثوا مع أنفسهم بعمق، وأن يناقشوا كل جزئيةٍ تتعلق بحياتهم الوطنية، ولا سيما أن الجزئيات استُخدِمت ذرائع لإحباط تنفيذ صيغ ومقاربات، للنهوض بالشكل المؤسسي الطبيعي والصحي للحركة الوطنية الفلسطينية.

المعركة الدبلوماسية التي يرى المحتلون أن خطاب الرئيس عباس أعلن عن بدئها؛ تتطلب انسجاماً فلسطينياً ورسالة موحدة. ذلك لأن الشعب الفلسطيني وقضيته يمرّان، الآن، بلحظات فارقة، ويواجهان أحد خيارين، إما تلاشي عناصر وجودهم السياسي على الأرض واندثاره، أو التقدم بعزيمة الشعب الفلسطيني وإرادته وتراثه الكفاحي، على طريق نضاله الوطني المعاصر. فلا بد من قواسم مشتركة بين الأطياف الفلسطينية يقوم عليها مشروع هذا النضال.

ومن نافل القول إن الحيرة والتلعثم والمجاملات مع المحاور العربية لن تساعد الفلسطيني على بلوغ مقاصده. ما يُفيد هو اعتماد المشتركات مع كل محور، وإن أمكن تضييق الفجوات بينها. ففلسطين لم تعد قادرة على أن تصبح ساحة لساجلات محور مع آخر. فالخطب جلل، والحال صعب ومعقد.
 
المتطرفون يتحدثون عن خطابٍ يحاكي خطاباً، وعن لاقط صوت يحاكي لاقطاً آخر، بما يعني، ضمناً، أنهم يرون في الأمر ظاهرة صوتية. هنا يكمن التحدي الذي لن يواجهه الفلسطينيون بقوة، ما لم يبرهنوا، بالعمل، على أن أمر الخطاب يتعلق بسياساتٍ على الأرض، وليس مجرد كلام، أو لغةً لمذيع، تشبه لغة أخرى!