السلطات الفلسطينية... مراوحة في الظلال

السلطات الفلسطينية... مراوحة في الظلال

23 أكتوبر 2014

اعتصام في غزة للمطالبة بإتمام المصالحة الوطنية (27 مايو/2014/الأناضول)

+ الخط -

بعد أن سُدت الطرق، وبلغ العجز مداه، واليأس ذراه، لم يبق أمام السلطات الفلسطينية من خيار سوى الحفاظ على الذات، عبر ممارسة المراوحة في الظلال، والتلهي بتليين وتنفيس ما أمكن من أزماتٍ داخليةٍ، لكي لا تنفجر وتحل وبالاً على وبال، في انتظار أمرٍ كان موعوداً ولم يعد مأمولاً كثيراً، وفي زمن الأنفاق التي لا نهاية لها، والكوارث التي بدأت، ولا تنفك تتوالى وتتعاظم.

منظمة التحرير الفلسطينية، كسلطة أولى، لم يبق منها سوى اسمها، ولجنة تنفيذية تجتمع وتصدر بيانات بين أزمة وأخرى، من دون أن تقوى على شيء، سوى وضع ختمها أو بصمتها، أحياناً، على هذا أو ذاك من التوجهات البائسة، بعد أن أعياها الهرم والتعب والتقاعد المبكر بسبب اللاعمل، وبسبب رغبة كثيرين في جعلها مجرد شاهد زور على قضيةٍ، تزداد تراجعاً وانحساراً، وشعبٍ يزداد شتاتاً في أصقاع الأرض كافة، وقد يلجأ بعضه، قريباً، إلى التسجيل في قوائم "ناسا" الفضائية للإبحار في مراكب فضائية نحو القمر، للإقامة في مخيماتٍ هناك، في انتظار العودة أو البعث والقيامة!

وتقدم السلطة الفلسطينية نفسها وريثاً للمنظمة، وقائماً في مقامها في معظم الأحيان، من حيث التمثيل والحضور والمشاركة، وحتى الخيارات، بعد أن تم تقزيم المنظمة وبردها وتنحيفها، لإدخالها في ثقب إبرة أوسلو، لحياكة عباءة السلطة الوارثة، والتي تقف، اليوم، أمام خيارات التقلص والتقزم والتفكك والانحسار المتتابع في المهام والوجود، بعد أن كثر الحديث (بما في ذلك حديث قادتها أحياناً) عن خيار حلها، قبل أن تُقاد إلى الانحلال، ذاتياً وموضوعياً.

أما الفصائل الأخرى (عدا الفصيلين الكبيرين) فحدث ولا حرج، فإن غياب أي خبر عنها يدل أين أصبحت، اليوم، وما هو حالها، إن كان لها حال، سوى اجترار وتذكر بعض ما كان، أما ما هو كائن، وأين هي منه اليوم، فهي لا تدري عنه شيئاً.

وتبدو حركة فتح، بعد أن عطلت كفاحها المسلح، حائرة ومصدومة مما تراه من تعطيلٍ لكفاحها السياسي السلمي، وانسداد في مساراته الأساسية، وما قد يترتب على ذلك من إذلال أو انفجار.

وتبدو حركة حماس في وضع أكثر سوءاً، فالمناورة بالخيار العسكري تضيق مساحتها كثيراً، وتكاد تنحصر في قطاع غزة، مع ما يترتب على ذلك من أثمانٍ لم تعد قادرة على دفعها هي والقطاع المكلوم. وفي الوقت نفسه، هي ترى أن الذهاب إلى الخيار السلمي لم يعد جذاباً، بعد ما حل بأصحابه من يأس تجاه إمكانية نجاحهم فيه، وعدم قدرتهم، بالتالي، على الاستمرار في دفع أثمانٍ لا طاقة لهم على دفعها في سبيله، ليكتشفوا إن تمكنوا من الدفع أنهم يشترون السراب.

وفي انتظار وضوح بعض معالم الطريق، والخيارات الممكنة والمتاحة، واستعادة بعض الهمة والروح الإيجابية، وعملاً بموجبات وكيفيات الحرص على الذات، والحفاظ عليها في انتظار ما هو آتٍ، مع الأمل بأن يكون أفضل، لا أسوأ مما كان، تلجأ السلطات الفلسطينية، منفردةً ومجتمعةً، إلى ممارسة المراوحة، لكي لا تصاب كلها، أو بعض أطرافها، بالتيبس، أو التصلب، نتيجة الترهل وانعدام الحركة. وهي تدرك، جيداً، فوائد المراوحة على أكثر من صعيد، وفي مقدمها الإيحاء للأتباع والجمهور والأصدقاء والأعداء أنها لا تزال حيةً وقادرة على الانطلاق والحركة، في أكثر من اتجاه، حسب ما يقتضيه الأمر.

واللافت أن هذه السلطات تفضل المراوحة في ظلال ما كان لها من قيادات ومواقف وتواريخ مبهجة، وفي ظلال ما تشيعه عن نفسها وقدراتها وخياراتها وادعاءات انتصاراتٍ تحققها في وسائل إعلامها. فهي لا تستطيع المراوحة، أو ادعاء التقدم في وضح النهار، أو حيث الأنوار والحقائق الكاشفة، مخافة أن يكشف عجزها، وأن تكشف عوراتها.

وقد اختارت كل من السلطة، بما تضمه من فصائل، بقيادة حركة فتح من جهة، وحركة حماس ومن معها من أنصار من جهة أخرى، المراوحة الآن في ظلال حكومة الوفاق، وإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتسعى كل منهما إلى التغطية على العجز والصدود الذي تواجهه على أكثر من صعيد إلى الاستظلال، أيضاً، بظلال ذاتية أخرى. فقيادة فتح توحي بالإعداد لعقد المؤتمر العام للحركة، مع ما يمكن أن يبحثه من موضوعات، ويتخذه من قرارات، وينتخبه من قيادات للجنة المركزية والمجلس الثوري. وحركة حماس تسرب أخباراً متتابعة عن مراجعاتٍ شاملةٍ تجريهاً، بحثاً عن خيارات ومسارات تتلاءم مع الظروف المستجدة.

تلجأ السلطة إلى المراوحة في ظلال حكومة الوفاق وإعمار القطاع، للإيحاء، بدايةً، بأن مسيرة المصالحة واستعادة الوحدة وعودة السلطة إلى القطاع أمور أصبحت مبرمةً وانتصارات تحققت، على الرغم من علمها وإدراكها أن مسافة طويلةً، وعوائق كبيرة، ما تزال هناك أمام إنجاز المصالحة والوحدة. لكنها بحاجة إلى ذلك كله للتغطية على الفشل الظاهر في تحقيق أي تقدم، على صعيد ما وصفته بالهدف الخطة، للوصول إلى الدولة المستقلة، في غضون عامين. فالطريق إلى مجلس الأمن مغلق بإحكام بالفيتو الأميركي، ومغلق، قبله، بانعدام القدرة على تأمين تسعة أصوات، تقبل بمشروع القرار المتعلق بهذا الأمر، قبل عرضه على المجلس. وفي الوقت نفسه، تم إشعال أكثر من ضوء أحمر أميركي، ووضع أكثر من إشعار أميركي بوجوب عدم الإزعاج أمام أي توجه من السلطة إلى الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، لئلا ينعكس ذلك بشكل مؤذٍ، أو مدمرٍ للسلطة نفسها. فتحدي القرار الأميركي ممنوع، خصوصاً على من كان ضعيفاً في هكذا زمن أغبر، تحوم فيه الطائرات والصواريخ الأميركية فوق رؤوس الجميع، مهددة بجعل عالي المنطقة أسفلها، وأسفلها عاليها.

وفي الوقت نفسه، تلجأ حركة حماس إلى مشاركة السلطة مراوحتها في ظلال حكومة الوفاق، وإعادة الإعمار للإيحاء بأنها جادة في توجهها نحو المصالحة، والعودة عن انقلابها، وإعادة السلطة إلى القطاع، لتتولى أمر المعابر والإعمار، بينما تدرك هي، جيداً، أن جنوحها باتجاه هذه المراوحة، وتحت هكذا ظلال، لا يعدو كونه سعياً للتغطية على الفشل في تحقيق أي من المطالب والشروط التي أعلنتها عند وقف إطلاق النار، وللحيلولة دون أن تتحمل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع القطاع، في ظل إدارتها له، وسعياً لكسب بعض الوقت، في انتظار فرص وظروف أفضل، لعلها تأتي لاحقاً.

قد تكون حال المراوحة في هذه الظلال جيدة، بالنسبة للحركتين وللمجموع الفلسطيني، بسبب ما تتيحه من فرصة لاختبار النيات والقدرات والخيارات، مع الحفاظ على الذات، وقد تكون هي الخيار الأفضل حالياً، طالما أن هذه السلطات لا تملك القدرة على مصارحةٍ لم تعتد عليها، خصوصاً أن الخوف يزداد يوماً بعد يوم، من قادم أكثر سوءاً على صعيد المنطقة ككل، قد يصبح الفلسطينيون فيه محسودين من أشقاء لهم، في زمن يزداد اسوداداً بعد احمرار.