مآزق العقل الانفصالي الصحراوي

مآزق العقل الانفصالي الصحراوي

27 نوفمبر 2014
+ الخط -

أحدثُ مؤشر على أن العقل الانفصالي الصحراوي/المغربي يواصل عبور حقل الألغام، العسكرية والسياسية، هو تهديده المغرب، وحتى المجتمع الدولي، بالعودة إلى حمل السلاح والاقتتال، أي إلى أجواء ما قبل مستهل الثمانينيات، حيث حسم الجيش الملكي الأمر عسكرياً، وحصن أمن صحرائه ببناء الجدران الستة، وتفعيل خطة "مارشال" تنموية شاملة للأقاليم الجنوبية، قضت على كل أحلام الانفصاليين في تأسيس حواضن شعبية داخلية، تبث أطروحاتها لتحويل الصحراء إلى جسد بدون روح. جسد بين يدي المغرب، وروح هناك حيث تُدبر الأمور بليل، لزيادة توسيع خريطة الجزائر، على حساب المملكة، وتكثير سوادها. 
على الرغم من كل ما تدلي به الجزائر الرسمية، وهي عسكرية الهوى والهواء، من "تعفف" فليس وراء الأكمة غير هذه الحقيقة المرة التي يعرفها المجتمع الدولي، ويسكت عنها، نفاقاً ليس إلا. إن من يحتمي بشعار الأدغال الأفريقية، مرجعية الحدود الموروثة عن الاستعمار، ليواصل احتلال الصحراء الشرقية المغربية، سيجد من باب أولى التمترس خلف المبدأ الأممي: "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، ليواصل نشاطه الخرائطي.
منذ مستهل الثمانينيات إلى اليوم جرت مياه كثيرة تحت الجسر: انهار الاتحاد السوفييتي، سقط جدار برلين، انتهت الحرب الباردة، ظهرت تكتلات سياسية وقوى اقتصادية جديدة، اندلعت الحرب العالمية ضد الإرهاب، دخل العالم العربي مخاضه الكبير، ألقى الأوروبيون القبض على مذنب في السماء. كل هذا لا يغري جبهة البوليساريو بشيء، ولو بقراءة ابتدائية تمكنها من بلورة تصور للحل، ذي جدية ومصداقية، يخرجها من مآزقها، ويفتح لها فتحا ضمن الوطن الأصلي الذي لا يتصور فيه مواصلة تزكية لصوص الخرائط.
لا أقول هنا بالغباء السياسي، لأن كوادر الجبهة الذين التحقوا بالوطن، أبانوا عن مقدرات فكرية وسياسية مهمة، كما برهنوا على أن عشرات السنين من "فورمتاج" المخابرات العسكرية الجزائرية، لم تأت على كل الخلايا الوطنية في قرصهم الصلب.
يبقى أن التفسير يكمن، حسب رأيي المتواضع، في أن جبهة البوليساريو لم تنهزم أمام الجيش الملكي، في معارك الصحراء، وإنما أمام الجيش الجزائري الذي قادها أسيرة إلى "غوانتنامو" الصحراء، هناك في لحمادة، حيث تشرق الشمس كل يوم، على أكبر سجن عالمي فوق الأرض. سجن لا يقل فظاعة عن مجمعات النازية في أوروبا التي احترق فيها اليهود، بجريرة كونهم يهوداً لا غير. الأسرى المغاربة الذين عادوا إلى الوطن من تندوف، وقد استمعت إلى بعضهم، لا يعرفون مُجمع "أوشفيتز" النازي، لكنهم حينما يحدثونك عن ظروف أسرهم، تُلح عليك هذه الفضيحة البشرية الأوروبية، بكل فظاعاتها. لم يكن السجان الصحراوي، في تندوف، يتميز كثيرا عن السجين، كلنا كنا أسرى، يقول أحد هؤلاء.
من هنا، كل مآزق العقل السياسي الانفصالي، وبصفة خاصة تهيبه، وليس عجزه، من القراءة التفصيلية البناءة لمشروع الحكم الذاتي الذي وضعه المغرب سنة 2007 بين يدي الأمم المتحدة، والقوى العالمية الكبرى؛ كإجابة ذات ثقل سياسي، أو قل بأعالي وأسافل، على خطة جيمس بيكر 2003، التي تبدأ مغرية بالحكم الذاتي، لتنقلب عليه، دافعة المنطقة صوب مجهول، ترغب فيه الجزائر الخرائطية.
أول ما يومض في عقلنا، ونحن نُحكِّم ما تراه العين، وليس مجرد وثائق سرية مهربة، هو أن من يبادر إلى تنمية أقاليمه، بسخاء كبير، على الرغم من الحاجة، لا يمكنه أن يكون إلا صادقا، وهو يطلب من سكان الصحراء، في إطار الحكم الذاتي، مواصلة المسار، وإذا أمكن بخطى أسرع. ومن يتمسك بسيادته على صحرائه، وهو يدرك أن عائداتها لا تفي بمتطلبات مواصلة تنميتها؟
هذا مأزق اقتصادي حقيقي، يُبَكِّت الانفصاليين ويُباهِلُهم، ويخجلون حتى من تكذيبه. من يستطيع إخفاء تراكم تنموي ومعماري، بقيمة 120 مليار دولار وأكثر؟ من يحفر الحفرة لإخفاء الصومعة؟ من يعلق الجرس في عنق الجزائر الرسمية؟
في سنة 2009 كان الشغل الشاغل للانفصاليين إفشال الانتخابات الجماعية في الأقاليم الصحراوية، عبر ثني المواطنين عن أداء واجبهم الديمقراطي، حتى تنعم عليهم الجمهورية بانتخابات، لا عين رأت ولا أذن سمعت.
كانت الحقيقة مأزقا حقيقيا، مرة أخرى، لأن أغلبية المسجلين في اللوائح الانتخابية، قصدوا صناديق الاقتراع، بكل العفوية والنبل المعروفين في ثقافة الصحراء. عشنا في الشمال انتخابات جماعية، أما سكان الصحراء، فهبوا إلى استفتاء حقيقي، انتصر فيه الفكر الوحدوي الصحراوي. 
تقول إحدى وثائق ويكيليكس إن"مقابلات ومصادر مستقلة تعتبر أن الهدف الرئيسي لغالبية الصحراويين يتمثل في مزيد من الحكم الذاتي بدل تقرير المصير"، مبرزة أن ما يدل على ذلك هو معدل المشاركة "المعتبر" الذي تم تسجيله في الانتخابات الجماعية الأخيرة. ونقلت البرقية الدبلوماسية التي صيغت في أغسطس/آب 2009 أن ناشطا مواليا للبوليساريو "أعرب لنا عن قناعته بأن غالبية الناخبين سيختارون الحكم الذاتي، إذا تم تنظيم انتخابات حرة اليوم".
وتتلاحق المآزق، وهي غير مستغربة في حقل كله ألغام، ويستوقفني منها، كرجل تربية وقلم، المأزق التربوي: حينما يتخلى مشروع الحكم الذاتي، لساكنة الصحراء عن الحقل التربوي الخطير، ليَكل لها أمر السياسة التربوية التي تريد، بما فيها بناء البرامج والمناهج، وتأليف الكتب المدرسية، فهذا يعني، بحسن نية، اجتماع كل الفضائل، وبسوء نية امتلاك ناصية تقرير مصير الصحراء مستقبلا، من خلال حرية تكوين المواطن، وفق الأيديولوجية التي تريد. لماذا تفضل لأبنائها المنفى الكوبي الشيوعي، ولا تجرؤ على تربيتهم في وطنهم، بالكيفية التي ترضاها؟
لولا خطورة الجانب التربوي، لما سَيَّرت فرنسا الاستعمارية فيالق مدرسيها في ركاب جيوشها. إذا امتلكْت المدرسة، فلن ينازعك أحد في الوطن. كانت النازية تحتاط كثيرا، حينما يتعلق الأمر بتوظيف رجال التعليم. لم يكن متاحا للألمان ولوج هذه الوظيفة إلا بعد النجاح في امتحانات "الغيستابو" السرية. لقد ظل أحدهم يُخفي يهوديته بكل دهاء، إلى أن ارتكب خطأ التقدم لوظيفة معلم.
وتتلاحق المآزق التي حبكها مشروع الحكم الذاتي، ليبرهن أن المشكل ليس في الانفصاليين، إذْ لا هِرَّ يهجر دار الزفاف، كما يقول المغاربة، وإنما في الجزائر العسكرية التي آلت على نفسها أن تكمل الخرائطية الاستعمارية الفرنسية. لقد استبدت القيادات العسكرية بالجبهة، وسلبت منها كل إرادة، وكل استعداد للتجاوب مع ساكنة المخيمات، وقد ضاقوا ذرعاً بشظف العيش، في معتقلات لا أحد يردد فيها مفردات الحرب الباردة. نحن اليوم أمام جدار برلين آخر، يفصل بين الصحراويين الوحدويين، المُمَتعين حتى النخاع، والصحراويين الذين ألبسوا أسمال الانفصال، وهم لها كارهون.
لبن بقهوة ولبن بالتراب، إلى أن ينتبه المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى أن قضية الصحراء زيف في زيف، أو قل هي قضية مشروع استعماري جزائري، وليست قضية تصفية استعمار.

6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)