معركة 25 يناير: حماية الذاكرة والرواية

معركة 25 يناير: حماية الذاكرة والرواية

28 يناير 2015
+ الخط -

تمرّ الثورات بمراحل وكبوات عديدة، وقد تنتصر في مراحل وتخسر في أخرى، أمام قوى الاستبداد والديكتاتورية، وقد يكون من المناسب دائماً على من يشارك في أحداث الثورات، في مراحلها الأولى، أن يدرس بجدية مواطن الخسارة، وألا يخشى الاعتراف بالهزيمة، فالانتصار وتغيير الأحوال يبدأ بالاعتراف بالهزيمة، والتحليل الموضوعي لأسباب الهزيمة والإخفاق وعواملهما. وهنا، لا بد أن تظهر الصورة واضحة، والعلاقات بين العوامل والفواعل ونمط التحالفات والأفعال وتشابكية الأفعال والسياقات الوطنية والإقليمية والدولية. هذا التحليل في موضوعيته قد يكشف لنا مواقع ومعارك، حسبنا أن الثورة قد انتصرت، ولم تكن سوى تمهيدات لعملية الانقضاض الكامل عليها. كذلك قد يكشف لنا هذا التحليل أن ثمة معارك لا بد من الإعداد لها ما استطعنا، وإلا ضاعت كما ضاع غيرها. والمهم، هنا، أن جلد الذات لا يعني الانسحاب والتراجع، بل الانطلاق من الدروس المستفادة إلى الأمام، مع الحفاظ على ما نحسبه مكتسباً بحق، وليس متوهماً اكتسابه!

لا مجال للشك، عندي، في أننا في مصر خسرنا معاركنا التي خضناها منذ تنحي حسني مبارك عن الحكم، وتسلم مجلسه إدارة شؤون البلاد منذ 11 فبراير/شباط 2011، بأيدينا أولاً وقبل كل شيء. وإننا توهمنا انتصاراتٍ، وشاركنا في عملية الالتفاف على الثورة، كل من موقعه، وأن الانتصار الحقيقي وغير المتوهم الوحيد كان في كسر حاجز الخوف عند قطاع شعب المواطنين ذي العدد القليل والفاعلية الأكثر. إن غياب الرؤية حول ماذا نفعل في اليوم التالي لسقوط مبارك، وغياب الثقة في أنفسنا، كجيلٍ للشباب، حرك المياه التي لم يستطع أحد أن يحركها عقوداً طويلة، وسقوطنا في المعارك الشخصية الصبيانية حول من يمثل الثورة، وثقتنا بجيل السبعينيات، من مثقفين وسياسيين، وما قبله باعتبارهم الأقدر على إدارة العملية السياسية لكفاحهم، الحقيقي لبعضهم والمزيف لبعضهم الآخر، ضد النظام المستبد، كلها كانت مقدمات لخسارة مُنيت بها ثورة 25 يناير في معاركها المفصلية.

بيد أن ثمة معركة لا تزال رحاها تدور منذ التنحي التمثيلي الكبير، وحتى عودة الجلوس على العرش، وهي معركة الذاكرة. تلك المعركة التي تعني خسارتها خسارة الجولة برمتها، والبدء من تحت الصفر. وقد أدركت المؤسسات السلطوية هذا الأمر بشكل مبكر، وقامت بعمليات حثيثة، من خلال أدواتها الإعلامية لتشويه الثورة، وكل ما ارتبط بها من أشخاص وشعارات وحركات. ومن ناحية أخرى، تقوم تلك المؤسسات بتخليد رجال أجهزة القتل والقمع، فعليك أن تسير في شوارع مصر، لترى أن الأجهزة التي تضررت منذ ثورة 25 يناير 2011، ومن قيمها وشعاراتها، تعمل على تخليد ذكرى قتلى أجهزتها، بإطلاق أسمائهم على مراكز الشباب والمدارس والشوارع، وتهميش متعمد لشهداء الثورة الذين قتلوا في ميادين التحرير في المحافظات كافة. وفي السياق نفسه، تدور عملية لكتابة تاريخ الثورة من خلال رجالها (مثقفو السلطة)، معتمدة على روايتها الأحداث في إصدارات كُتبية، بأعداد مهولة، والأخطر هو كتابتها، حصرياً، روايتها لثورة 25 يناير وما تلاها من مواقع للكفاح في مناهج التعليم للجيل الذي يستلم راية الكفاح والمقاومة كل سنة... الأمر ليس هزلاً، إذن!

الذاكرة الجمعية للمجتمع، وذاكرة الأجيال الصاعدة التي تكبر في وضع لم يستتب، بسبب سيطرة الاستبداد على مفاصل المجتمع، لابد أن تكون من أولويات العمل الآن، فالحفاظ على الثورة يستلزم الحفاظ على ذاكرتها. وهذا المجال يتسع للإبداع لكسر أي محاولة من أجهزة القمع لمنعها أو القضاء عليها، فالتعامل مع ذاكرة الثورة بأساليب تقليدية سيساهم في ضياع الذاكرة، والتي لا تعني فقط توثيق الأحداث الكبرى، بل تفصيلات المشهد التي يسهل فيها التشويه والتحريف والتجديف!

فتحول شهداء الثورة منذ 25 يناير 2011، مروراً بمذابح ماسبيرو واستاد بورسعيد وميداني النهضة ورابعة، وحتى لحظة كتابة هذه المقالة، إلى أرقام لا تُذكر أحياناً، وإن ذكرت لا تتم جماعياً وإنما فرادى، ولا يتذكر أحد حياتهم وكفاحهم، هو مساهمة لضياع ذاكرة المقاومة والنضال. لاحظت تعليق أسر على استحياء صور أبنائها الشهداء على أبواب منازلها، والقليل منهم يضع صور أبنائهم على الأحياء التي يسكنون فيها. لكن، لا يوجد جهد منظم، ممن ينتمي للثورة لإطلاق أسماء هؤلاء الشهداء وصورهم على الأحياء بشكل لا حياء فيه، ولا يمكن أن تصب الجهود للضغط على مؤسسات الدولة القائمة بالقتل، لكي تقوم بهذا الجهد. وعلينا أن ننتبه كي لا نعيد خطأ تصنيف الشهداء، وفقاً لانتماءاتهم الفكرية، فالدم واحد والقاتل واحد.

لا أحد يذكر المصابين، خصوصاً الذين فقدوا أعينهم في موقعة "فقع عيون الحرية"، قد نعرف شخصاً منهم لا أكثر. توقفنا عن رسم الجرافيتي المخلد للذاكرة والأحداث، وتوقفنا عن إنتاج الأفلام القصيرة المنتجة فردياً (المخرج المواطن) حول ذكريات أيام الكفاح والقصص التي لا يعلمها كثيرون. توقفنا عن حلقات الذكر الثوري التي كانت تملأ الأرجاء والأماكن، وتجمع المختلفين فكرياً وعقدياً لمناقشة ما يدور وما سيدور، تحولنا إلى طوائف داخل طوائف، نخشى بعضنا أكثر من خشية من يستمر في القتل والتنكيل والتعذيب.

الحفاظ على ذاكرة الثورة يعني الحفاظ على السردية التي تكتب من خلال هؤلاء الذين ينتمون لها فكراً وقيماً، يعني الحفاظ على الحكايات الصغيرة، والتي معاً تمثل الحكاية الكبيرة للثورة، والتي بالحفاظ عليها تمثل مخزوناً يورث للأجيال التي ستحمل الراية ممن ينتمي إلى حركاتنا، أو من أشخاص سينشئون حركات جديدة بروح مختلفة، تخلخل ما عجزنا عن القيام به.

معركة الذاكرة هي معركتنا الأخيرة، والتي لا مناص من الانتصار فيها، فالسلطة المستبدة يمكنها أن تقمع الحريات، أن تعتقل ما تشاء من أرقام، تغتصب ما تشاء من أحرار وحرائر. لكن، لا يمكنها أن تمنع سريان الأفكار والحفاظ على الذكريات، إذا أردنا ذلك، فالمستبد يستطيع أن يقتل، لكنه لا يستطيع أن يسلبنا ذاكرتنا.

عاشت الثورة فكرةً، تسري في عقول الأمة وقلوبها.

EB663898-3457-459C-B1E2-A40FE222DCB7
نجوان الأشول

كاتبة مصرية، رئيسة المركز العربي لتحويل النزاعات والتحول الديمقراطي، باحثة دكتوراه في الحركات الاجتماعة والإسلامية بالجامعة الأوروبية، عملت باحث دكتوراه في المعهد الألماني للدراسات الدولية. تنشر مقالات بالعربية والانجليزية.