كتب.. يكتب.. فهو كاتب

كتب.. يكتب.. فهو كاتب

31 أكتوبر 2014
+ الخط -

الكتابة تمرين يومي. لا يكفي أن تخط خربشات بين حين وحين، ثم تطمع في أن تدعى في ملكوت الكلمة كاتبا. كان الجيلاني، وهو ولي صالح يجله المغاربة كثيراً، يصرخ في مجالسه "ما اسمك في الملكوت الأعلى؟". يستنهض همم المريدين، ليشمروا عن سواعد الجد في طقس الذكر اليومي، عسى يدعو في ذلك الملكوت "أولياء". وشأن الكتابة قريب من ذلك: يلهج المريد بالذكر، حتى يقال مجنون. ويعكف الأديب على الكتابة، حتى يقال مأفون. سيان! وما أكثر مجانين الأدب، الذين قضوا في محراب الكلمة، قائمين قاعدين، تتجافى جنوبهم عن المضاجع عسى أن يمنّ الخيال بفكرة أو بظل فكرة!

وحين تنثال الصور عبر الفضاء المفتوح، وتملأ الأسماع والأبصار ويضج العالم بالهوس، يلوذ الأديب بكلماته بعيداً عن الصخب الذي ينقطع. يكتب، في صمت، لا يعرف لمن، ولا كيف تصمد مكتوباته، وسط سيل الصور المتدفق من كل حدب وصوب. لا يعرف، لكنه يكتب. تدفعه حاجته الفطرية إلى أن يقول كلمته ويمضي، عسى أن تصل الأسماع بعد أن يمضي، وعسى تصدق أوهامه أن الكاتب الحق يكتب، اليوم، لتقرأ أجيال الغد. وهم! لكنه وهم جميل يمنح لفعل الكتابة معنى وجدوى وطاقة وجود.

كتاب كثيرون نسجوا خيوط الوهم، ثم علقوا في حبائله. عاشوا يكتبون وينشرون وينتظرون. يرتقبون ساعة الرحيل، عسى تمتد الأيادي بعدهم إلى "تراثهم"، في غمرة السيل الهادر، تنفض عنه وحل السنين، وتعيد قراءته ونشره.. ليكتب التاريخ أنهم كانوا أدباء العصر وكل العصور!

أي وهم لعين.. بل أية روح شريرة أوحت إليهم بذلك الوهم الفاتن اللعين؟ هي كيمياء الكتابة ربما. كيمياء ساحرة، تغير طبائع الأشياء، حتى يكتب الأديب لما بعد موته، كأنه يعيش مخلداً! يعتصم بالوهم، طوق نجاته وسط السيل المتدفق: طوفان من الصور المتحركة يهدر في كل اتجاه، تصحبه الأغاني المبثوثة من السماء المفتوحة نحو الأرض الغريقة. والناس، يا أديب عصره وكل العصور؟ استبدلوا، وا لوعتاه، بالأوراق لوحات الزجاج، وبالأقلام أصابع تستدعي بنقرة ما تشاء مما يطير في السماء أو يدب على الأرض أو يتلاشى في الهواء!

وبعد، فهل يخفي غربال الوهم شمس الحقيقة؟ وأية جدوى لفعل الكتابة، في ظل هذا العزوف غير المسبوق عن القراءة؟ وهل يجد كاتب العصر موطئ قدم تحت شمس الإبداع الإنساني بكل أصنافه وأجناسه؟ يبدو السؤال مربكاً، ويحار المتابع في تقديم جواب شاف عنه.

ثمة ما يدعو إلى التشاؤم حقا، لكن الحضارة الإنسانية التي بدأت، حينما كتب الإنسان الأول أولى الرموز تضمحل سريعا من دون هذه "الكلمة المكتوبة" التي كانت في البدء، وستظل في المنتهى.

ومثلما لاحت في أفق الإنسانية الكئيب، بعد حروبٍ طاحنةٍ خاضها البشر في القرن السابق، شعارات "العودة إلى الطبيعة"، ها هي ذي التقانة المتعاظمة تدفع عقلاء البشر إلى الدعوة إلى "العودة إلى الكتاب". عودة مرتجاة، على درب طويل شائك ملتو، تحدق بها الأخطار من كل جانب، لكنها ضرورة إنسانية، لا غنى عنها، سوى أن يصير إنسان العصر مسخاً بلا معنى ولا تاريخ ولا هوية. وهو عين ما تأباه حركة التاريخ الصاعدة التي تعرف كيف تسلك طريقها في مجرى الحضارة الإنسانية.

ومن اختط المجرى وشقّ الطريق منذ البدء "حيث كانت الكلمة"؟ إنه الإنسان. إنه، على وجه الدقة، ذاك الكاتب "الأول" الذي نحت الرموز على الصخور، من دون أن يدرك أنه "يؤرخ" لولادة الحضارة الإنسانية العالمة، ولا يغرنك بعد كل هذا البهرج الذي تسحر به وسائط الـ"ميلتمديا" أعين الناس.

إنه قدر الإنسانية، يا أديب عصره وكل العصور! ففي هذا الزمن، زمن النعي، حيث أعلنوا موت المثقف والأديب والكاتب، وغيرهم كثير، يرجى أن تنبثق في أفق الإنسانية المسدود بشائر ولادة القارئ الذي يقرأ وينتقد ويتفاعل.

أمل مخنوق، مكبوت في ضمائر أدباء شباب قادمين. لكنه أمل حي، لا يركن إلى الأماني المعسولة، بل يكتب وينشر ويبادر ويفشي في الناس "عادة" القراءة وإدمان القراءة وثقافة القراءة. وهو لذلك يجعل الكتابة تمريناً يومياً. يقرأ ويكتب ويتعلم. وحين تعلو في سماء الأدب أسماء كتابٍ، يستمدون شعبيتهم من رصيدهم النضالي وتاريخهم، ومن ظرفية زمنية أتاحت لهم بعض الظهور، يراهن هو على رصيده الإبداعي وعلى "جودة" منتوجه، لا على التاريخ ولا الجغرافيا ولا الانتماء الأيديولوجي.

دعك من وهم الخلود بعد الموت. فتلك حكاية لا تستحق إمعان النظر، إنما أوردتها على سبيل التهكم من واقع "ساخر"! وإلا فأخبرني، يا أديب عصره وكل العصور، كيف تقرأ أجيال القرن الثلاثين ما "عافته" أجيال هذا القرن، ونفضت منه أياديها؟

إنه الواقع المرير يفتح فجوة في الخيال، عله يجد فيه فسحة، أية فسحة!

602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
602C815A-56D4-493E-A00F-C56E675B9A74
سمير بنحطة (المغرب)
سمير بنحطة (المغرب)