الدّيكتاتور والدّولة المنهوبة

الدّيكتاتور والدّولة المنهوبة

08 يوليو 2014

تونسي ينظر في ملصق لفيلم عن بن علي (ديسمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم يكن ديكتاتور قرطاج حريصاً على الفتك بمعارضيه، ومحاصرتهم وملاحقتهم وتغييبهم خلف الشّمس فحسب، بل كان، أيضاً، حريصاً على قطع الأرزاق، وعلى التفنّن في نهب المواطنين التونسيين عموماً، وسرقة أموالهم، وسلب ثرواتهم، جهار نهار، فالجنرال كان مهووساً بالجمع والمنع، مسكوناً بتوسيع شبكة نفوذه، وتعديد مسالك فساده ومصادر ثرائه والأسرة المالكة. لذلك، لم ير حرجاً في توظيف كلّ المؤسّسات الإعلاميّة والثقافيّة والتعليميّة، في الدّاخل والخارج، لنقدّمه في صورة المنقذ، ولتصور البلاد في صورة الدّولة المتقدّمة، والواقع خلاف ذلك تماماً. وكان المراد التّعتيم على واقع متدهورٍ، وعلى حاكم مستبدّ.
كان الفقر ينهش المجتمع، وكانت البطالة متفشّية بين أصحاب الشّهادات العليا وغيرهم، وكانت المقدرة الشرائيّة متدهورة، والطّبقة الوسطى مهدّدة بالانقراض، وكانت الجريمة منتشرة، والرّشوة دارجة والظّلم واقعاً، وكانت الأصوات مكتومة، والأحزاب ممنوعة... ومع ذلك، صمّوا آذاننا وقتها بالحديث عن المعجزة التونسيّة، وعن التحوّل المبارك، وعن التعدديّة الكرتونيّة، وعن عصر الحداثة، وقائد العهد الجديد.. كانت صناعة الكذب في تلك الحقبة خبزاً يوميّاً يقتات منه كثيرون من أشباه الإعلاميين ومثقّفي القصر وحرّاس السّلطان... ولم يقف زين العابدين بن علي عند احتواء النّخبة، وتشريد المعارضين وامتلاك قنوات تشكيل الوعي الجمعي، بل تجاوز ذلك إلى الهيمنة على الاقتصاد التونسي ومقدّراته، والتّقرير الصّادر عن البنك الدّولي أخيراً (27 مارس 2014)، بعنوان "كلّ شيء داخل الأسرة، تَحَكُّم الدّولة في تونس" شاهد على ذلك، فقد ورد فيه أنّ بن علي وحاشيته وأفراد أسرته كانوا يستأثرون بـ 21 % من جميع أرباح القطاع الخاصّ، وأخبرت البيانات أنّ 220 شركة كانت تحت تصرّف المخلوع وعائلته، واستغلّ "فخامته" نفوذه الشّخصي ليحصّن المفسدين التّابعين له، وليوصد الأبواب في وجه كلّ من يفكّر في منافستهم، فأصدر، في هذا الإطار، 25 مرسوماً، تتضمّن تشريعاتٍ، تخدم مصالح العائلة المالكة، وتسمح لها، من دون غيرها، باحتكار الاستثمار في مجالات معيّنة. وذلك من خلال ما كان يسنّه من شروط مجحفةٍ، تحول دون حصول المواطن العادي على ترخيص بعث مشروع مَا في مجال مَا، هو من المجالات الحيويّة للمقرّبين من الرئيس وتبّعه.
وفرض الجنرال قيوداً على الاستثمار الأجنبي المباشر في 28 قطاعاً، ومكّن زبانيته من الحصول على أهمّ الصفقات، وأفضل المشاريع الاستثماريّة، حتّى يحتكر الثّروة، وينهب ما يستطيع وأتباعه من المال العامّ. فجرى تطويع القانون لخدمة مافيا الفساد، وجرى إخراج الأوامر والمراسيم على المقاس، لتخدم سياسة النّهب المنهجي. فكان الحديث عن الانفتاح الاقتصادي لتونس كذبة كبرى، وكانت قطاعات كثيرة مغلقة في وجه المستثمرين، لأنّ الأسرة الحاكمة في قرطاج كانت تحتكر كلّ شيء... وذلك في إطار ما يسمّيه بوب ريكرز، أحد مؤلّفي الدّراسة، "رأسماليّة المحاباة" القائمة على توظيف السّلطة السياسيّة والقانونيّة لخدمة مصالح شخصيّة وفئويّة، وتجلّى ذلك من خلال توظيف بن علي نفوذه الشّخصي ليصدر لوائح تكرّس هيمنة فئة من النّاهبين المقرّبين له على أسباب الاستثمار والثّروة. ما أسهم في إنتاج اقتصاد ريعي متخلّف، ينخره الفساد وتحكمه المحسوبيّة، والمشكلة أنّ ذلك النّظام الاقتصادي الفاسد الذي أرساه الدّيكتاتور ما زال يحكم السّياسة الإنمائيّة والاستثماريّة في تونس بعد الثّورة، وهو ما يحول دون استعادة الاقتصاد التّونسي عافيته، على حدّ قول الخبير الاقتصادي، أنطونيو نوسيفورا...
بعدما قرأت الدّراسة، تبيّنت ارتجاليّة الرّأي القائل إنّ الحكم الانتقالي مسؤول عن الأزمة الاقتصادية في تونس، وتأكّدت أنّ تونس تواجه تركة زمرة من الفاسدين والسارقين الذين أتوا على الأخضر واليابس، فكانوا لا يبالون بطفل غلبه الإملاق، ولا بشابّ أدمته البطالة، ولا بشيخ أضناه السّعي في طلب الرّزق، بل كانوا يفكّرون فقط في ملء جيوبهم من تعب المعدمين، ومن مال المفقّرين. وكانوا يشيّدون قصورهم من بؤس المحرومين، وكدّ المحكومين، فبئس ما كانوا يفعلون.

 

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.