تونس .. ما بعد انتخابات الرئاسة

تونس .. ما بعد انتخابات الرئاسة

25 ديسمبر 2014

احتفالات بفوز السبسي في الانتخابات الرئاسية (22 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

أُسدل الستار على الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التونسية، بإعلان فوز الباجي قايد السبسي، وبقيت تداعياتها التي بدأت تظهر آثارها وبصورة متسارعة. وإن لم تكن النتيجة من قبيل المفاجأة، فإن الحدث في حد ذاته يستحق مقاربة موضوعية لفهم أسباب انتصار هذا المرشح، وما الدور الذي يمكن أن يقوم به الرئيس المتخلي مستقبلا.
تكشف النسبة العامة لنتيجة الانتخابات حضوراً شعبياً متقارباً لكلا المرشحين، ولم يكن فوز السبسي بـ55.68% من قبيل النسب الفلكية، أو الفوز الساحق، وإن كان معقولاً بالنسبة لانتخابات عرفت تسابقاً محموماً إلى قصر قرطاج، ولعبت فيه عوامل كثيرة دوراً حاسماً. فقد تمكن مرشح المنظومة القديمة من الحفاظ على أصوات ناخبيه الذين صوتوا له في الدورة الأولى، وفي الدوائر نفسها من حيث التوزيع الجغرافي، ونعني بها مناطق الساحل والشمال الغربي، وقد انضافت له أصوات قوى سياسية، دعمته بشكل معلن أو بصورة مستترة، ونعني بها أحزاب الاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد اليساري، ونسبة من أصوات قوى اليسار المنضوية تحت عباءة الجبهة الشعبية ممن رفعوا رسمياً شعار عدم التصويت لكلا المرشحين، مؤكدين في الوقت نفسه على رغبتهم الشديدة في قطع الطريق على المنصف المرزوقي.
ومن ناحية ثانية، نال المرشح المنصف المرزوقي أصواتاً توزعت جغرافياً على مناطق الجنوب والوسط، وسياسياً جمعت بين أصوات التيار الإسلامي والقوى الثورية والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وكان حصوله على نسبة 44.32% تعبيراً عن حضور قوي للشارع الرافض وصول مرشح المنظومة القديمة إلى منصب الرئاسة. ويمكن قراءة هذه النتائج بصورة أولية، من خلال جملة نقاط تلخص المشهد العام:


ـ تشكل النسبة التي حصل عليها المرشح المرزوقي دعماً قوياً له، حولته إلى زعيم فعلي للمعارضة التونسية في السنوات المقبلة، شريطة أن يحسن التعامل مع مثل هذه القاعدة الناخبة، المتنوعة المشارب والتوجهات (من أقصى اليمين والقوى الإسلامية إلى أقصى اليسار مثل الدعم الذي أعلنته مجموعة النقابيين الراديكاليين).

ـ فشل المرشح السبسي في استمالة الناخبين من التيار الإسلامي، على الرغم من محاولته إبداء لهجة تصالحية إزاءهم، خصوصاً في الأيام الأخيرة للحملة، وعلى الرغم من إعلان قيادة حركة النهضة حيادها الرسمي عن دعم أي مرشح، وربما يمكن تفسير ميل جماهير القوى الإسلامية إلى المرشح المرزوقي بالخطاب العدائي الذي أبداه بعض قادة نداء تونس (حزب السبسي) تجاه الجماهير الإسلامية والثورية، وهو ما بدا تأكيداً لما يتداول عن وجود تيار استئصالي داخل "نداء تونس"، يؤمن بالانقلاب على الثورة، وإقصاء التيار الإسلامي والثوري من المشهد بصورة جذرية.

ـ شهدت مناطق الجنوب التونسي، بعد الإعلان عن النتائج، مظاهرات احتجاجية واسعة في مدن مختلفة (الحامة ودوز وقبلي وسبيطلة، وأيضاً بعض الأحياء الشعبية في العاصمة تونس مثل منطقة الكرم)، وهي جهات شكلت تاريخياً معقلاً للثورة التونسية، ورفعت لواء العداء لقوى الثورة المضادة التي يُحسب الباجي قايد السبسي عليها، وهو أمر سيفرض عليه، باعتباره المرشح الفائز، أن يتعامل بكثير من الحكمة في الفترة المقبلة، سواء من حيث التعامل مع هذه الاحتجاجات، أو من جهة توجيه رسائل طمأنة للجماهير الواسعة التي انتخبت خصمه، والتي لا تخفي ارتيابها في نيات القادم الجديد إلى قرطاج، باعتباره وريثاً موضوعياً للترسانة الاستبدادية القديمة.

ـ بعد أن استكمل حزب نداء تونس هيمنته على الضلع الثالث للسلطة في تونس (رئاسات البرلمان والحكومة والجمهورية) سيكون عليه عبء تحمل مسؤولية إدارة الشأن العام، بصورة ينبغي أن تنفي ما يؤكده مراقبون كثيرون من أن تفاصيل الحكم الجديد قد تفضي إلى حالة من "التغول" السلطوي، إذا لم يفتح الحزب الباب واسعاً أمام تحالفات ممكنة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تتمتع بأكبر تمثيل ممكن في البرلمان، أو في الشارع السياسي، وهو أمر لا يخفى على رجل سياسة مخضرم، مثل الباجي قايد السبسي، حيث تتوارد أنباء عن رغبته في تشكيل حكومة تتولى رئاستها شخصية من خارج الحزب، وتضم قوى سياسية كبرى، مثل حزب النهضة، أو على الأقل تتمتع بدعمها داخل مجلس نواب الشعب.

ـ أفضت الانتخابات الرئاسية إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي، حيث شهدت ضمور بعض الأحزاب (مثل الحزب الجمهوري وحزب التكتل) واضمحلال أخرى، وصعوداً لأخرى، مثل التحالف الذي تشكل حول المنصف المرزوقي، وأيضاً تصدر قوى تضم في تركيبتها وُجوهًا من النظام السابق، من دون أن يعني هذا سهولة في إدارة المرحلة المقبلة، حيث بينت الاحتجاجات التي لحقت الانتخابات وجود تحفز ثوري، واستعداد واضح لدى القوى المناهضة للنظام القديم للتحرك، وربما إرباك المشهد السياسي برمته.

وأخيراً، لا يمكن نفي أهمية التجربة الانتخابية التونسية التي بدت، وعلى الرغم من كل العوائق، خطوة ناجحة لمواصلة السياق الديمقراطي الذي انخرطت فيه البلاد، واستعدادا جديا لدى القوى السياسية للتداول على السلطة انتخابياً، وهو ما يحمل الوافدين الجدد إلى الحكم مسؤولية كبرى في الحفاظ على هذا المنجز الثوري وعدم الانجرار إلى رغبة الإقصاء الكامنة في نفوس بعض منتسبي الحزب الحاكم الجديد، لأنه حينها سيكون رد الشارع التونسي عنيفاً، وربما يفضي إلى دخول البلاد في نوع من الفوضى، ليست قادرة على تحمل تبعاتها في ظل محيط إقليمي ملتهب، ووضع دولي تغلب عليه الحسابات والتجاذبات، فهذه الديمقراطية التونسية ولدت لتبقى وتتطور، وليست مما يمكن استغلاله للوصول إلى الحكم، والبقاء فيه بصورة نهائية، فعصر الاستبداد انتهى زمانه في تونس الخضراء.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.