ثورة الناس الطيبين

28 اغسطس 2014
+ الخط -


حين يخاطب موظف كسول أو غاضب ورديء المزاج، بصوتٍ عال، مواطناً، بأنه يجب عليه العودة في وقت لاحق، أو أن معاملته مفقودة. هنا، الناس الطيبون من المراجعين يقبلون ويغادرون. هؤلاء الطيبون، لا يعرفون تقييم أداء هذا الموظف أكان صادقاً أم لا، وربما لا يعرفون القوانين، إضافة إلى أن الموظف، في بلادنا العربية، وللأسف، يبدو دائماً في موقع قوة.

وضع الموظف في موضع قوة هو خطأ شنيع في شبكة العلاقات الاجتماعية داخل الدولة. فالموظف، البسيط أو الكبير، يستغل هذا الأمر للتغطية على عللٍ لديه، منها: عدم الرغبة في العمل، والتنصل من المسؤولية، وربما، أيضاً، كرهه الآخرين. يتحدث عالم النفس، كارل يونغ، في كتابه "الإنسان ورموزه" عن أساليب لا متناهية يستخدمها الإنسان للتغطية على أفعاله القادمة، من رغباتٍ واعيةٍ أو غير واعيةٍ لديه. فالموظفة، حين مجابهتها بخطأ ارتكبته تقول "نسيت" أو "قاطعني أحدهم". ولدى الإنسان الذي يوضع في موقع "قوة" مساحاته الواسعة للتبرير، إضافة إلى أنه يعرف أساليب العمل في مؤسسته وأنظمتها، ويسخر هذه المعرفة لتمرير تصرفاته. 

الحديث هنا عن الموظف الحكومي، في العادة، لأن لدى من يعمل في القطاع الخاص منظومة تتوسل الزبون دوماً، وتقوم بتهذيب موظفيها وإعادة إنتاجهم ليكونوا أكثر ملاءمةً مع الناس. أما في النمط الحكومي، فلدينا "لوثة" أتت من النظام الأبوي المستحكم في عالمنا العربي. فعادة ما ينقل هذا النظام الاستبداد من درجة إلى أخرى، فالموظف الذي يستبد عليه مديره يستبد على من هو أسفل منه، وعلى زوجته التي قد تستبد على الطفل الصغير، وهكذا، أي على طريقة الكواكبي: المستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار.

يبني النظام الأبوي (البطريركي) شبكة علاقاته بطريقةٍ يكون فيها خاضعاً، موطّناً نفسه على طاعة من هو أعلى منه في التسلسل الهرمي. العلاقات والعوائد في مجتمع كهذا تنحو إلى أن تخلق أزمة، كلما تم استخدامها وتوظيفها. وهذا النظام، للأسف، لا يقبع فقط في تراثنا الذي استبطن "القيم الكسروية"، ولم ينهض به العرب، لأن مدينتهم، بحسب محمد عابد الجابري، لا تزال "مدينة الجبارين". إنه نظام يعيد إنتاج نفسه، في ظل الدولة الحديثة وعبر سبل حديثة أيضاً، كما بين هشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي" الذي أوضح فيه وجود "أبوية" و"أبوية مستحدثة".

حين زار فيلسوف السياسة، الفرنسي دوتوكفيل، أميركا، قبل عقدين، كتب متحسراً كيف أن الأميركيين يلحظون في شخص الموظف جانب "القانون"، بينما هم في أوروبا يرون في الموظف جانب "القوة". ويبدو أننا، في العالم العربي، نرى في شخص الموظف جانب "الجبروت"، لأن الموظف ظل من ظلال الدولة. ولا أعرف لم نحن، العرب، مغرمون بترديد كلمة "الدولة" في صغير الأشياء وكبيرها، فهي كلمة هلامية، لا تعبر عن جهةٍ محددة، بل يتم توظيفها، عادة، لخلق الخوف والرعب، بينما يُفترض تحجيمها والاكتفاء بكلمة الحكومة، لأنها تعبر عن المؤسسات القائمة في البلد، والمعنية بإدارة شؤون الناس، ومعنية، أيضاً، بخدمتهم، وليس العكس: أن يخدمها الناس، ويخدموا موظفيها.

لقد انتقد شيخ الفلاسفة، برتراند راسل، في كتابه "السلطة والفرد" ذلك الموظف الذي يود أن يظهر بمظهر العظيم، حين يعتاد التسلط على الفرد العادي. يورد راسل أن الفرد العادي (هو السيد المفترض)، لكنه يشعر بنفسه خادماً لرجل الجيش والبحرية والشرطة والموظفين الآخرين!

هناك ارتباط واضح بين غياب الحرية وغياب المسؤولية. ففي غياب الأولى، لا يرى الإنسان نفسه مسؤولاً، فهو مرتهن في خياراته وسلوكه على من هو أعلى منه، وسيتدثر بردائهم الذي يحميه من أي مسؤولية حال الخطأ. أي أن الإنسان الذي يعمل في مؤسسةٍ تنقصها الشفافية والنظام لن يشعر أن تصرفاته الخاطئة غير طبيعية. لذا، وجدنا أنفسنا نعيش في دولٍ يكون للجندي فيها صلاحيات رئيس دولة، ويعتاد فيها أي موظف علاقات الإخضاع والقوة أمام المواطن، ذلك الذي فسدت صناعته في هذه الأجواء. لقد كان من ضمن ملاحظات ابن خلدون الاجتماعية أن النفوس التي تعتاد القهر وأخلاق الإخضاع هي نفوس تفسد، ويسطو بها القهر والضيق، وتعتاد الكسل والخبث والمراوغة.

الإنسان ضعيف، قد يكون خاضعاً دوماً لنزواته، ولنفسيته الرديئة، إضافة إلى وجوده في سياق دولٍ عربيةٍ، يسودها القمع، وفيها ذل فقدان الوظيفة والمسكن والحياة الطبيعية. ربما ليس من الجيد أن نعوّل على إصلاح هذا الإنسان نفسه، ولا على انتظار دولنا العربية التي يئسنا من قدرتها على الإصلاح وتحسين شروط الحياة لأفرادها. لكن، ربما نعوّل على أن يتوقف الناس الطيبون عن أن يكونوا طيبين في مثل هذا السياق، وأن يتكلموا بصوت عال، مع الموظف المعطّل ومدرائه، وأن يسألوا عن حقوقهم، وعن أسباب عدم خدمتهم، وأن يكشفوا جرم المؤسسات، ذلك الجرم المبني على طريقة علاقاتها وفوقيتها مع الناس.

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي