إنساننا القتيل وإنسانيتنا المقتولة

إنساننا القتيل وإنسانيتنا المقتولة

12 يوليو 2014

غزة تحت القصف (11يوليو/2014/ فرانس برس)

+ الخط -


لن تكون غزة أولى "وجهات نظر" إنسانيتنا، ولن تكون الأخيرة. اختبرنا ما نعيشه الآن في أكثر من محطة سابقة وحالية، وربما سنختبرها مستقبلاً. لم تعد إنسانيتنا مجرّد كمالٍ، نتوق إليه، هرباً من مادّيات عالم غير عادل، بل تكرّست "وجهة نظر"، تقتل كمال إنسانيتنا.

حين تميل إلينا القضية، أو نميل إليها، تسرقنا من عقولنا. هكذا اعتدنا التفكير. في غزة، يبدو منطقنا مغايراً لما يجري في سورية، أو في العراق. فقد بتنا أسرى طوائفنا، وقومياتنا، أكثر مما بتنا أحرار إنسانيتنا. لا نريد التفكير أن هناك ثورة في سورية، وأن هناك أكثر من 150 ألف ضحية. نريد الاعتقاد أن هناك "متشددين يموتون فقط، لا مدنيين، وإن مات هؤلاء، فهذه ضريبة الحروب".

في غزة، نعادي حركة "حماس"، لألف سبب وسبب، ونتغاضى عن المدنيين الذين يسقطون في العدوان الهمجي الإسرائيلي. وإن شئنا "إظهار إنسانيتنا"، نتشدّق بتعليقات فيسبوكية تهدف إلى تنفيس الغضب تجاه شخص آخر، بحجّة "الدفاع عن أهل غزة"، أكثر من تحقيق الهدف، المفترض أن نصبو إليه، حين ندعو إلى التضامن مع غزة، وهو "تسليط الضوء على مأساتها".

لم نعد في مرحلة نمو إنسانيتنا وتطويرها، بل أضحينا في مرحلة تكريس انقسامنا، وإسقاط المفاهيم الإنسانية العليا على انقساماتنا، وعلى جميع الأسس، وكأن سعادتنا تكمن هنا. في هذا الانقسام. ولتكريسه، نبحث عما يُمكن أن يُفيد "قضيتنا". نبحث عن صورة لجثة طفل، لنبرزها على أن القاتل في المقلب الآخر هو من يجب إلغاؤه. مع العلم أن طفل غزة يشبه طفل العراق، ويشبه طفل سورية. جميعهم يتنفسون ويأكلون ويشربون، من الهواء نفسه، والماء نفسه، والطعام نفسه. فأين الاختلاف إذاً؟

يكمن الاختلاف، كل الاختلاف، في تثبيت منطق "إلغاء الآخر". لا نريد أن نسمع أحداً، ولا نريد الإصغاء إلى أحد. علماً أن الخطوة الأولى في درب تطوير إنساننا العربي تبدأ من "الإصغاء". نرفض الاقتناع بأن "الحاكم"، هنا، يشبه الحاكم هناك. بل نصنع من "حاكمنا" إنساناً فوق الشبهات، لا يُمسّ، ولا يُلمس. فنقتل حريتنا باسمه، ونلتذّ بعبوديتنا له.

لا يُمكن أن تستمرّ الأمور على ما هي عليه. في لحظة ما، سنكتشف أن العالم ابتعد عنا، ولم نعد منه. سنكتشف أننا لم نستغلّ ما هو كفيل بانتشالنا من انقساماتنا غير المجدية، وسنكتشف، وهنا الحسرة، أننا نعود بالتاريخ إلى الوراء، بسرعة أكثر من المتوقع.

ليست غزة مجرّد قطاع يتلقّى الضربات من وقت إلى آخر، بل تمثّل فعلياً، في الوجدان الإنساني، حكاية شعب، مُحاصر من كل الجهات، ومدفوعٍ إلى الموت، فيما نحن نستمدّ قوة انقسامنا من ذبحه. وليست سورية التي وُضعت على الرفّ إعلامياً، مجرّد دولة من خارطة المَريخ، لا تعنينا أخبار الموت فيها، ولا العراق، مُجرّد بلد سئمنا حكايات القتل والدمّ فيه. هؤلاء ناس، يحلمون كما نحلم، ويفكرون بما نفكر، ويطمحون بما نطمح. والأسوأ، أن في هذه المعضلة، يستمرّ الإسرائيلي حاكماً بأمره. أصلاً، لم يكن ليوجد، لولا "البيئة الخصبة"، التي قدّمناها له، حين قرر تأسيس كيانه فوق أرض ليست له.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".