"غزوة الموصل" ونبوءة غالبيرث السوداء

"غزوة الموصل" ونبوءة غالبيرث السوداء

18 يونيو 2014
+ الخط -
يذكر العضو في لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس سابقاً، والدبلوماسي الخبير في شؤون العراق، بيتر غالبيرث، في كتابه "نهاية العراق"، أن الأميركيين أقدموا على فعلٍ أحمق، باحتلالهم هذا البلد الذي أرادوا جعله نموذجاً، تحذو حذوه دول المنطقة في بناء الديمقراطية، فأورثوه العنف والفوضى وسفك الدماء، ودمّروا كل إمكانية فيه، لقيام دولة ناهضة ومعتبرة، وأنهم لن يجدوا أمامهم لاحقاً، لإنقاذه من السقوط في براثن الديكتاتورية، أو الحرب الأهلية، سوى تقسيمه إلى دويلات ثلاث: كردية في الشمال موالية للغرب، وشيعية في الجنوب موالية لإيران، وسنية في الوسط مبهمة الولاء، وتعمها الفوضى. ويضيف أن عراق المستقبل لن يظل، بأي حال، موحداً، تجمعه مصالح وطنية عليا، إذ لابد له من التفكك، على غرار ما تم فعله مع يوغوسلافيا السابقة التي يصفها المؤلف بأنها "مثل العراق، متعددة المذاهب والطوائف والأعراق، لكنها فقدت استعدادها للعيش معاً، تحت سقف واحد"!
ويبدو أننا، اليوم، وبعد بضع سنوات على نبوءة غالبيرث السوداء، نجد أنفسنا أمام هذه الحقيقة المرعبة التي أوصلنا إليها الزلزال المدمر الذي واجهه العراق عام 2003، والذي لم يكن الهدف منه، بحسب فيتالي شوركين، ممثل روسيا الدائم في مجلس الأمن، "إسقاط نظام ديكتاتوري، وإنما تغيير نظام الدولة العراقية الذي كان قائماً طوال ألف عام"، وقد فجر هذا الزلزال أوضاعاً، وبدل أحوالاً، ليس على صعيده فحسب، إنما على صعيد الإقليم كله، والعالم أيضا، ولسوء طالع العراق، وهو منشأ الحضارات ومؤسس الدول ومقيم العمران، بحسب توصيف المؤرخين له، أن الخراب بدأ عنده وعليه، وعصر الخرائط الجديدة وتفكيك الدول شرع يحفر بصماته على أرضه، مرةً بإرادة أشخاص وقوى منظورة، ومراراً بفعل أقدار ومصائر مبهمة، لا رادّ لها!
وينبئ العصف الماثل أمامنا اليوم في سماء العراق والمنطقة، والذي صنعته "غزوة الموصل"، بما هو أشد هولاً، بعدما تحولت هذه "الغزوة" إلى مصيدةٍ، تشابكت خيوطها، إلى درجة أنك لا تستطيع أن تفرز خيطها الأبيض من الأسود.

وبالطبع، شرعنت تجربة الأعوام الأحد عشر الماضية في العراق الفساد، وكرست الخراب، وأسست لدولة المحاصصة الطائفية، في عملية سياسية مشبوهة، ودستور سلب حقوق مجموعات وشرائح واسعة من العراقيين، مورست ضدهم سياسات التهميش والإقصاء، جذّرت الشعور بالغبن والاستهداف، وأحدثت ردود أفعال بدت، في أحيان كثيرة، لاعقلانية وغير منضبطة، وتصاعد هذا الشعور بقوة، وعلى نحو حاد، في ظل ولايتي نوري المالكي الذي سعى إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية في شخصه، ولم يقدم على أي مبادرة، تفتح الطريق أمام إرساء دعائم السلم الاجتماعي، وتزيل الشعور بالتهميش والغبن، وتساوي بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، بل عمل، وبتعمد واضح، عكس ذلك، دافعاً بالاحتقان إلى مداه الأعلى، ومن دون أي إحساس بالمسؤولية الوطنية، وحتى المسؤولية الدينية التي زعم أنه يراعيها.
وفي ظل وضع معقدٍ وزاخرٍ بالأفعال غير المسؤولة، وردود الأفعال المماثلة لها كهذا الوضع، تحولت مدن وحواضر عراقية إلى حواضن لتيارات وقوى مشبوهة، وجدت فرصتها في الدخول إلى المجتمع، مستغلة مشاعر النقمة والغضب، ومثيرةً الحس الطائفي والإثني لدى هذا الطرف أو ذاك، وفي رعاية قوى دولية وإقليمية، لها مصلحة في تغيير الخرائط الجغرافية، وخبرة في تأسيس الدول الجديدة وتفكيك المجتمعات، واللعب على التناقضات.
وهكذا فوجئ الجميع، وبينهم لاعبون أساسيون، بغزوة الموصل التي أوجدت واقعاً جديداً، لكنه واقع محسوب، جرى التمهيد له بدقة، ونفذت صفحته الأولى بنجاح، وبدا لرجال الحكمة والعقل ضرورة التعامل مع الواقع الجديد بعناية وحذر، من خلال إدراك المخاطر التي يمكن أن يفرزها على صعيد وحدة العراق وأمن المنطقة، وكان من الممكن أن تتخلى الطبقة السياسية الحاكمة عن أنانيتها وعنجهيتها لمصلحة الوطن، ولو مرة واحدة، وأن تعمل باتجاه دفع المالكي إلى الاستقالة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تأخذ على عاتقها تأسيس عملية سياسيةٍ عابرة للطوائف والإثنيات، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية، إلا أنها تصرفت من خلال الجيشان العاطفي وردود الأفعال غير المحسوبة، وأدخلت البلاد في نذر حرب أهليةٍ، لا تستثني أحداً، وسوف نعرف أن الفتاوى الدينية، من مراجع وشيوخ الطائفتين، لعبت دوراً شريراً في إثارة الأحقاد، وتأليب الطوائف بعضها على بعض، وبدا أن هذا الدور مرسوم لها بعناية أيضا!
قبل ذلك وبعده، ظهر أن الخاسر الأكبر هو العراق الوطن، والشعب الذي كان حلمه منذ تأسيس دولته الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم، إنضاج هوية وطنية موحدة (بكسر الحاء وفتحه أيضاً)، وقد سقط هذا الحلم، اليوم، وتناثر وسط هذا الهيجان المتصاعد والتوترات الطائفية الحادة وغيرالمسبوقة.
وبكل مرارة، نشعر أن الطريق نحو الخلاص من النكبة الجديدة يبدو منغلقاً إلى حد القرف، وتلوح في الأفق سيناريو نبوءة غالبيرث السوداء أقرب إلى التحقق، ولا نملك إلا أن نطلق حسراتنا على وطنٍ أضعناه، قبل أن يضيعنا، وهو الوطن نفسه الذي وصفه المسعودي في "مروج الذهب" بأنه "منار الشرق وسرة الأرض وقلبها، (والذي) إليه تحدرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال"، (وهو) "المجتبى من قديم الزمن، ومفتاح الشرق، ومسلك النور، ومسرح العينين، ومدينة المدائن". ...ولسوف يلعننا التاريخ إن أنصف في تقييمنا!
   
          
   
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"