اللغة العربيّة والعصر

اللغة العربيّة والعصر

25 ديسمبر 2014

تزايد الاهتمام بلغة الضاد في عصرنا الرّاهن (Getty)

+ الخط -

في عالم دقّت فيه المسافة بين الجماعات البشريّة، وتعدّدت فيه وسائل التلاقح الثقافي وأشكاله، أصبح من المهمّ بمكان تفعيل دور اللغة في أيّ مجتمع، لتسهم في التعبير عن مشاغل الناس، وفي تقديم منتجاتهم وإبداعاتهم للآخر، فاللغة أداة ضروريّة مهمّة في مجال التنافذ الثقافي، وبها تمتاز الأمم وتتبارى في التعبير عن كيانها الثقافي، ومنجزها الحضاري.

ويلاحظ الدّارس تزايد الاهتمام باللغة العربيّة في العشريّة الأخيرة، فبعد أحداث 11 سبتمبر الدّامية، تزايدت الرّغبة في مساءلة العقل العربيّ، وفي فهم الخلفيّة الثقافيّة للعرب، وتعدّدت، في هذا الإطار، مراكز الدّراسات ومنابر الاستشراق، وتمّ إبرام اتفاقيات عديدة بين العرب والغرب، للتّعاون في المجالين، اللغوي والثقافي، وقد خصّصت الإدارة الأميركيّة في عهد الرئيس جورج بوش مبلغ 114 مليون دولاراً لدعم برامج اللغات المهمّة في أميركا، بما في ذلك اللغة العربيّة، وقد تزايد عدد المقبلين على دراسة الأخيرة في جامعة هارفارد، مثلاً، بنسبة 93 % بين عامي 2002 و2005، كما لا تكاد تخلو جامعة أميركيّة، اليوم، من قسم لتعليم اللغة العربيّة. والأمر مشهود، أيضاً، في جامعات أوروبيّة، وهو ما يخبر بتزايد الاهتمام بلغة الضاد في عصرنا الرّاهن.

والحقيقة أنّ الاحتفال باللغة العربيّة لا ينبغي أن يقف عند التعريف بهذه اللغة، وتحفيز النّاشئة على استعمالها، والتنبيه إلى طاقتها البيانيّة وقدرتها التعبيريّة الخلاّقة، بل يتجاوز ذلك إلى النّظر في التحدّيات القادمة التي تواجه انتشار العربيّة، في عالم بدت فيه اللغة الإنجليزيّة الغالبة بامتياز.

وعندي أنّ حوسبة اللغة العربيّة يُعدّ المطلب الأبرز، والتحدّي الأكبر في مسيرة اللسان العربيّ اليوم، وفي عالم تميّز بوفرة المعلومة وسيولتها وسهولة تداولها، بالاعتماد على التقنيات الإعلاميّة والتكنولوجيا الرقميّة، أصبح اجتناء الأفكار، وتتبّع الجهد الابتكاري للإنسان أمراً ضروريّاً، وحاجة وجوديّة ملحّة، يقتضيها مطلب التحديث وهاجس مواكبة العصر. ويلاحظ الدّارس، إذ يبحر في مواقع الواب، ضحالة المادّة المعرفيّة العربيّة المعروضة على الشبكة العنكبوتيّة للاتّصالات، فحجم المحتوى العربيّ الرقمي على الإنترنت لا يتعدّى في أفضل الإحصائيّات نسبة 3% من المحتوى المعرفي العالمي للشّبكة، وهو ما يحوجُ إلى إعادة ترتيب البيت الإلكتروني العربي وتجديده، ليواكب الدفق الهائل للمعلومات من ناحية، ولينقل إلى المستخدم العربي، وإلى كلّ مواطن إلكتروني، منتجات العقل البشري المبدع، ومنجزات البلدان العربيّة الثقافيّة والحضاريّة، قديماً وحديثاً من ناحية أخرى، على نحو يسهم في تقديم صورة نيّرة تليق بالعربيّ اليوم، فمن المهمّ بمكان أن نخرج بالعربيّة من صفحات الكتب الصفراء والمجلّدات المذهّبة إلى صفحات الواب والتواصل التفاعلي الإلكتروني، فحوسبة اللغة العربيّة مطلب ملحّ يمكن ترسيخه ببعث فرق بحث تتكوّن من أهل اختصاص من لغويّين وإعلاميّين ومترجمين، يسهرون على نقل المعارف، وتوليد المصطلحات الجديدة، وحوسبة المحتوى المعرفي باللغة العربية.

ومن المهمّ إصدار وسائط رقميّة متعدّدة، لتعلّم اللغة العربيّة وتعليمها، على نحو يسهم في تيسير بلوغ المستخدم، العربيّ خصوصاً، والمواطن الإلكتروني عموماً، للمعلومة، ويمكّنه من متابعة الزاد اللغوي العربيّ العامّ والمختصّ، فتتوفّر له فرصة فهم العربيّة والإحاطة بمحمولها الثقافي المتنوّع، فإنشاء قواعد بيانات وفهارس إلكترونيّة وقاعدة معطيات لذخيرة النّصوص العربيّة مطلب أكيد، يضمن تحقيقهُ حياة العربيّة وبقاءها سيّارة في النّاس.

كما أنّ تحفيز الخرّيجين في المؤسّسات الجامعيّة على الاشتغال بالتعلّمية الرقميّة للّغة العربيّة مفيد، إذ يساهم في نشأة جيل من الشباب الأكفّاء القادرين على تعصير العربيّة، وتطويعها للصّناعة الحاسوبيّة.

ومعلوم، أيضاً، أنّ العمل على تعريب أسماء مواقع الواب، وإحداث محرّكات بحث عربيّة، ومواقع واب للتّرجمة الآليّة من العربيّة وإليها، وبعث قنوات تلفزيونيّة ورقميّة ثقافيّة، مشاريع مهمّة تنتظر الإجراء والتّعديد والفاعليّة، حتّى يُكتب للغة الضّاد أن تحتلّ المكانة التي تليق بها في عصر المعلومات.

وهذا التحدّي لا ينهض برفعه الأفراد، ولا الحكومات وحدها، بل الأمر موكول، أيضاً إلى مجامع اللغة العربيّة ومجالسها والجمعيّات الثقافيّة، وكلّ الغيورين على لغة الضّاد، لأنّ حياة اللغة من حياة أهلها، والعالم ينتمي إلى أولئك الذين يسمّونه بلغتهم.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.