يوم الأرض... يوم الحق

يوم الأرض... يوم الحق

30 مارس 2014

الفلسطيني سيظل صامدا على أرضه (أرشيفية، فرانس برس)

+ الخط -

يأتي يوم الأرض، في كل سنة ليُذكِّر الفلسطينيين والعرب أنّ فلسطين هي جوهر القضية العربية، وأن أساس النضال الفلسطيني هو الأرض، وأن لا شيء أغلى وأسمى من هذه الأرض. ليس فقط لأنها أرض مقدسة، أرض الأنبياء والرسل، وأرض الإسراء والمعراج، والحرم الإبراهيمي وكنيسة القيامة وحائط البُراق والعَهد العُمَري، ولكن أيضا لأن الدم الفلسطيني امتزج بهذه الأرض، دفاعا عنها، راسِماً علاقة تماهٍ وذوبان لا فكاك فيها. 

ولعل سبب خشية الكيان الصهيوني من هذا اليوم/الرمز، هو كونه، أيضا، يُذكّر بوحدة المصير بين كل أبناء فلسطين، في فلسطين التاريخية، رغم تقسيمهم، بسبب الاحتلالات الغربية والهوان الرسمي العربي، على الخارطة، بين فلسطينيي 1948 وفلسطينيي 1967.

يُذكِّر هذا اليوم، يوم الأرض، وهل ثمة شيء أسمى من أُمِّنَا الأرض، أن ما اصْطُلِح عليه بعرب إسرائيل هو وَهْمٌ، وأن هؤلاء فلسطينيون روحا ودما ومصيرا، وأنهم لا يَقلون وطنيّة عن إخوانهم في الضفة الغربية والقدس وغزة وفي كل بقعة تَوَاجَد فيها فلسطيني من "شعب الجبّارين".     

يُحيي الفلسطينيون يوم الأرض وهو يُعادِل كل الأعياد الفلسطينية الأخرى أهمية، بل يتفوق عليها عمقا، لأن هذا اليوم الاستثنائي رسم علاقة الدم التي تربط هذا الشعب بهذه الأرض والالتحام بها، واستعداده للموت دفاعا عنها. 

لا توجد قضية أنبل وأقدس من الأرض، والشعب الفلسطيني ضرب أروع مثل على التعلق بالأرض، رغم مختلف الإغراءات والإغواءات والضغوط والتحديات.   

وتكتسي هذه المناسبة، هذه السنة، أهمية استثنائية، بسبب محاولة الكيان الصهيوني، نهارا جهارا، فرض "يهودية الدولة الإسرائيلية" على الفلسطينيين، مستغلا ضعف الوفد الفلسطيني ووضعيته التفاوضية الهشة والانقسامات الفلسطينية والضغوط الأميركية، وهو ما يعني، ببساطة واضحة، ليس فقط مصادرة ما تبقّى من أراضيهم، بل الرغبة في طردهم جميعا، باسم هذه الاعتراف، وحصرهم في غزة وما سيتبقى من الضفة الغربية في نهاية المفاوضات، التي لن تنتهي قريبا.

لقد أراد الفلسطينيون، بمختلف مسمياتهم، عربا إسرائيليين أو عرب 48، رفض التخلي عن أراضيهم لأنها مقدسة، ورفض أي تقسيم لهذه الأرض، لأنّ الشعب واحد ومصيره واحدٌ، وأراد الإسرائيليون، مستغلين، هذه الظروف العربية الحرجة، ظروف ما سُميّ بالربيع العربي، والتي خفّت فيها الضغوط على هذا الكيان بل تلاشت، أن يقضي على ما تبقّى من أمل، فأخرجوا سلاح "يهودية الدولة"، والتي تعني في نهاية الأمر، تهجير كل ما هو غير يهودي من هذه الأرض الفلسطينية.            

 يوم الأرض يعود إلى 30 مارس/ آذار من سنة 1976، حين أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مصادرة أراض فلسطينية في منطقة الجليل، فأعلنت الجماهير العربية في فلسطين التاريخية الإضراب الشامل، في أول تحدٍّ كبير لها بعد احتلال أرض فلسطين. وكان الردّ الإسرائيلي عنيفا فاستخدمت قواته الدبابات في القرى الفلسطينية وأعادت احتلالها مُخلِّفة 6 شهداء. ورغم مطالبة الجماهير العربية بلجنة تحقيق مُحايِدة فإن الكيان الصهيوني رفض الاستجابة لهذا المطلب الذي يهم مواطنين يحملون جنسيّته الإسرائيلية.

إن إحياء هذا اليوم يؤكد على أن هذا الشعب الذي يعاني منذ 1947، منذ تقسيم أرضه وفرض كيان غريب فيها، لم يقبل هذا القَدَر المفروض. وأنه يُواصِل، رغم التحديات الجسام، رفضه الأمر الواقع وصموده حتى تحقيق حقوقه التي سيفرضها في النهاية، لأنه "ما ضاع حقٌّ وراءَهُ مُطَالِبٌ".

كلما استعاد الفلسطينيّ هذه الذكرى، كلما أعاد اكتشاف مصيره. لقد كانت الهبّة الفلسطينية ليوم الأرض تحذيرا للشعب الفلسطيني مما ينتظره ومما يحدُثُ الآن، من زرع المستوطنات في كل الضفة الغربية ومن تهويد القدس. وكانت مطالبة معمدة بالدمّ للحفاظ على الأراضي، ومساعدة المقدسيين على المرابطة في بيت المقدس.

والحقيقة التي تكشف عنها هذه الذكرى، أن الثوابت الفلسطينية لا يمكن تجاوُزُها، وأن ثمة خطوط حمراء لا يمكن لأيّ زعيم فلسطيني أن يُفرِّط فيها، رغم ما يمكن أن يسببه انفعالٌ ما وخفة عقل. وهكذا يَجد المُفاوِضُ الفلسطيني، المُحاصَر من الضغوط الأميركية والإسرائيلية والضعف العربي الكبير، في هذا اليوم، يوم الأرض، صمّام أمان، وداعما نفسيّا قويا يساعده على الإفلات من أي خطأ تاريخي.

إن رمزية "يوم الأرض" متعددة الدلالات، وتعني أشياء كثيرة في نفس الوقت. من بينها أن هذا الشعب الفلسطيني لا يعرف غير فلسطين أرضاً ووطناً ومصيرا، وهي رد مُفْحِمٌ لكذبة الصهاينة: "فلسطين: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". والأرض الفلسطينية هي أرض الزيتون، هذه الشجرة المباركة التي هي رمز للسلام والمحبة والتي لا يتوقف الصهاينة والمستوطنون عن اقتلاعها ولا يتوقف هذا الشعب عن زراعتها، انسجاما مع النصيحة النبوية الشريفة: " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

مع كل المِحَن التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وهي كثيرةٌ ومتعددة، ومع كل يأس يمكن أن يدب في نفوس الفلسطينيين، بسبب الهوان العربي الكبير والتشرذم الفلسطيني ولا مبالاة العالَم، يأتي هذا اليوم/الأمل ليزرع الأمل من جديد، وليُذكِّر الجميع بأنهم جميعا فلسطينيون وبأن لا شيء يستحق التضحية أكثر من الوطن (حب الوطن من الإيمان!)، وبأن الشهادة من أجل هذه الأرض المقدسة تعني الحياة.

وإذا كانت الطلقة الأولى للبندقية الفلسطينية (وبزوغ منظمة التحرير الفلسطينية) أظهرت للعالَم أجمع أن الفلسطينيين ليسوا مجرد لاجئين فإن يوم الأرض، أكّد على وحدة الشعب الفلسطيني، عربا ودروزا، مسلمين ومسيحيين، وأظهر أن هذا الشعبَ مستعِدٌّ للتضحية بكل ما يملك للتشبث بهذه الأرض والموت فيها إن اضْطُرَّ إلى ذلك.

يوم الأرض الفلسطيني هو دليل الصمود الحقيقي لهذا الشعب الذي شَهِد أكبر مأساة في القرن العشرين ولا يزال، وهو الدليل الذي لا يمكن لأحد أن يشكك في سلميته وفي شرعيته. وقد رسمت هذه الانتفاضة صراطا مستقيما لا يمكن أن يزيغَ عنه إلا هالكٌ.

ولعلّ هذا الدرس الكبير لهذه الذكرى الخالدة، ذكرى التعلق بالأرض والوحدة الوطنية، يكون مفيدا للقوى الفلسطينية المتشرذمة والمتناحرة، كي تتحد وتنبذ صراعاتها وفرقتها وتوحد بندقيتها في وجه أشرس وأبغض استعمار عرفه القرن العشرون.