يوميات غزة: على بعد ستّين دبّابة

يوميات غزة: على بعد ستّين دبّابة

21 يوليو 2014
"غزة 2009"، باسل المقوسي / فلسطين
+ الخط -

أخذ الفعل وقته [حتّى نسي غارس اللّيل برميله]، فتناثرت أشلاء الجنود وفولاذهم قوس قزح. انتظرنا، ليلتها، أن يهوي مطرق اللّوز على أصابع تلاميذ في الخامس الابتدائي لم يؤدّوا وظائفهم، في صباح يوم ماطر. بيتي، بجوار مخيّم يبنا، يبعد ستّين دبّابة عن الحدود.

هاتفني صديقي: "وينك يا زلمة؟ مكانك مش آمن. اسمع هيني جاي آخدك بالسّيّارة". أوصلني ليلتها إلى بيت نسيبتي، في أطراف حيّ تلّ السّلطان في مدينة رفح. منطقة هادئة، حديثة التّنظيم، مرصوفة الشّوارع. تركني مطمئنًّا.

قرب الفجر، أيقظني حلم زوجتي، وهي التي تهاتف أمّها عادة في الصّباح لتستفسر عن المتوفي من العائلة الفلانيّة على إثر منام قد رأته ليلتها، أو تحلم بغربان سوداء تتساقط من السّماء قبل يومين من غارة جويّة لا تنتهي، أو تتوسل إليّ في حرب [لم تأتِ بعد] أن أغادر غرفتي قبل دقائق من تسويتها بالسّماء. أخبرتني أنّ قلبها مقبوض. كان هذا أكثر من كافٍ كي أعلم أنّ الحلم قد دقّ أبواب جهنم فانفتحت على غاربها.

في ساعة كتلك، تتحوّل الحواس الخمس إلى نقمة؛ عندما تستطيع أن تميّز صوت الطّائرات تحصد مصلّيّ الفجر في مسجد بعيد، صرير الدّبابات، نقر قنّاص لحائط في الدّور الرّابع في مبنى في رأس الشّارع، دقات قلبك، صوت أنفاسك.

تكومّنا، سبعتنا، وافترشنا أرض المطبخ [أو الملجأ كما ستؤكّد عليه حرب قادمة]. كانت الجرافة [البرج] على بعد أمتار، تحرث بطن الشّارع والرّصيف، تنحت سور البيت وحوّاف القلب.

هناك دائمًا جانب مشرق: الحمّام ملاصق للمطبخ [هذه المرّة]. بالإضافة إلى أنّ دينا، ابنتي الرّضيعة، كانت تمضي وقتًا سعيدًا. ففي الحرب، أنت تحت رحمة جيش الاحتلال، وأصغر أبنائك.

كان الهاتف العنيد الأهوج، في أقصى الصّالة، بجوار النّافذة المطلّة على الدّبّابة في الخارج. لا تستطيع الوصول إليه، ولا حتّى تركه كي يخرم آذان الجيش. أمّا الخلويّ فهو أكثر صمتًا، لكنّ أفضل تغطية لإشارته، خاصةً بعد انقطاع التّيّار الكهربائيّ، تحصّلها إذا ما أخرجت رأسك من النّافذة. عمّتي تهاتفني هنا بعد مهاتفتها للبيت، أخي في الأردن يهاتف عمّتي ليحصل على رقمي، يهاتفني، يهاتف أختي في السّعوديّة، تهاتفني. إدارة الاتصالات في وقت الحرب مهمّة صعبة. مهارة يتطلب اكتسابها أكثر من حرب، أو أهلاً وأصدقاءَ أقلّ.

بعضهم يطالبك بنشرة إخباريّة على الهاتف، والبعض الآخر يقرؤك نشرة الأخبار. كان أجمل الاتّصالات ذلك الّذي تلقيته من صديق شاعر، معماريّ التّكوين: سألني عن أكثر شيء أخافه، فأجبته أن تبتلعني الجرافة دون أن تحاورني، راجع معي تفاصيل البيت بهدوء كي أراكم أكبر عدد من الجدران بيني وبين الجيش.

الإذاعات المحليّة تنعف نداءات الاستغاثة وقصصًا تشبهنا وأخرى لا تشبهنا. تعليمات للحفاظ على الأرواح، وبطاريات الجوال، والمياه في السّيفون [الاحتياط الإستراتيجيّ من الخزّان الجوفيّ، والمورد الوحيد للشّرب وإعداد وجبة حليب الأطفال].

طالب جيش الاحتلال عبر مكبّرات الصّوت بخروج من هم فوق الخامسة عشر ودون الخمسين، إلى مدرسة في مدخل الحيّ. زارتني حكايات أبي في الخمسينيّات. سيتم اعتبار المتخلفين مسلّحين مطلوبين. بالرّغم من توسّلات زوجتي، وأمّها، وبناتها، وأمّ عماد، وأمّ أيمن، ونساء الحارة، وزوج أخت زوجتي الّذي هاتفني ليبلّغني أنّهم قد أطلقوا النّار على من طالبوهم بالخروج قبل قليل، دقّ جاري الباب، رفعنا أيدينا وبطاقاتنا فوق رؤوسنا، وخرجنا.

المشهد في الخارج مختلف. بهرتني الألوان في بطن الشّارع المكشوف، كوابل هاتف، أسلاك ملونة، أنابيب مياه، مواسير مجاري. كلّها مطحونة بتجريد لا حسّ فيه. كان سائق الإسعاف يحاور مدفع الدّبّابة التي لا تشبه نفسها في الأخبار. تجمّعنا مع نصف رجال الحيّ في شارع مفتوح. كان مهرجانًا، دخانًا وقصصًا، الصّيدليات والدّكاكين تفتح أبوابها، بخجل من عيون الجيش. رسم مكبّر الصّوت خط سيرنا: استمروا لملاقاة الدّبّابة في آخر الشّارع، ومنه إلى المدرسة. تباطأ الكثيرون، مستفزّين مكبّر الصّوت، بالرّغم من محدوديّة الخيارات.

شجّعني الشّيخ نظير (الذي قرّر انتظار حربٍ أخرى قبل الرّحيل) على "بطّ الدّمّل" على رأيه. هيّا إلى المدرسة، التي لم يخب ظنّي فيها منذ أن كنت طفلاً. كان الطّريق طويلاً إلى الدّبّابة الأخرى، قرّر أحدهم جرّنا إلى اليسار حيث طريق مختصر، كلّفنا قتيل كان يطل من شرفة منزله، وبعض المصابين. تفرّقنا في الشّوارع. هاتفني زوج أخت زوجتي، يحرّضني على التّسلّل إلى خارج الحي المحاصر، قلّبت المباني العالية من حولي، فلم أرَ سوى قنّاصة.

تجمّعنا نحو العشرين في منزل شخص لا نعرفه، كي نستمع إلى قصّتنا في المذياع، وقصّة مسيرة سلميّة خرجت من قلب المدينة لكسر حصارنا وتوصيل المعونات. تعثّرت المسيرة بمجزرة وسقط العشرات. قرّر بعضنا المخاطرة بإكمال المسير إلى المدرسة، والبعض المخاطرة بالعودة إلى بيوتهم، والبعض المخاطرة بالتّجمع في مسجد مجاور. واخترت مخاطرة من نوع آخر: قضاء ليلتين في منزل أناس لا أعرفهم، في منطقة لا أعرفها، في بلد لم أعد أعرفه، ولا يعرفني.

هاتفتني زوجتي، أعطيتها رقم المنزل، أعطته لعمّتي، ومنه لأخي، ثم لأختي. وكذلك لابن عمّتي، وزوج أخت أخرى لزوجتي، وخالها، وخالي، وكلّ خوالي البال. انسحب الجيش إلى أطراف الحيّ المحاصر، رجعت صباحًا إلى بيت نسيبتي. المشهد في الشّارع زاد اختلافًا هذه المرّة: شوارع محروثة، بيوت مجرّفة، فضلات طعام الجيش، وكذلك فضلات أجسامهم.

لكنّ الصّخب والرّعب لم يتوقّفا. كان أكثر الأدعية فاعليّةً، خاصّةً بعد انطلاق صاروخ من الطّائرة: أن يسقط في منزل جارك!

في صباح آخر، فتحت الدّكاكين أبوابها، وتهادى المحاصرون المعلّبات والبطّاريات الجافّة. الإذاعات المحليّة عادت بتعليمات جديدة هذه المرّة: طرفي سلك وبطارية جافّة توصلها لشحن بطارية هاتفك الخلويّ، أو إعطابها. حارس بئر المياه التّابع للبلديّة أصبح الأكثر شعبيّةً في المنطقة، لا لدماثة خلقه، فهذه فائدة جانبيّة، بل بسبب مولّد الكهرباء الّذي يعمل بالسّولار. كان الجميع يصطفّون طوابير في انتظار دورهم لشحن هواتفهم الخلويّة. البعض كان يحضر وصلات كهربائيّة وقوابس مشتركة.

أمّي، في زيارة خالٍ لي في غزّة منذ أيام، تهاتفني. أستعدّ للشّرح، تفاجئني طمأنينتها؛  كانت قد رأتني في المنام باسمًا.

بعد صباحات أخرى، انسحب الجيش، ومهدت آليّات البلديّة الطّريق المجرّفة المؤدّية للمدينة.
هاتفني صديقي: "وينك يا زلمة؟ مكانك مش آمن. اسمع هيني جاي آخدك بالسّيّارة".

المساهمون