معركة إعلامية على جثث أطفال

معركة إعلامية على جثث أطفال

09 اغسطس 2014

قصف مدرسة تابعة للأمم المتحدة في بيت لاهيا (30يوليو/2014/Getty)

+ الخط -


حسمت صور جثث أطفال غزة المعركة الإعلامية لصالح غزة ضد إسرائيل، بعدما باتت المعركة على رواية الحدث توازي أهمية نتائج المعركة العسكرية على الأرض، وتلك معركة لا يمكن الافتخار بكسبها، نظراً لفداحة ثمنها، أي أرواح المدنيين، والأطفال منهم خصوصاً. وقد أثار العدد الهائل من الضحايا من المدنيين وعمليات التدمير الواسعة، بما في ذلك تعرض مقار الأمم المتحدة للقصف، طوفان صور رافقه طوفان من المواقف الشاجبة من نجوم الفن إلى السياسة، إلى شخصياتٍ يهوديةٍ، نافذة في الشأن العام. طوفان الصور هذا أرغم بعض الصحافة الأميركية على تعديلٍ ما في تأطيرها الخبر من التركيز على صواريخ حركة حماس إلى نشر صور وأنباء استهداف مدنيين، لجأوا إلى مقار الأمم المتحدة. ولعل غضب السفير الأميركي لدى واشنطن من تغطية "نيويورك تايمز" التي أهملت، بحسب رأيه، معاناة المدنيين الإسرائيليين من مؤشرات هذا التعديل الطفيف.

حرب "تويتر" و"يوتيوب" سبقت الإعلام التقليدي، ونافسته على رواية الحدث، وتوجيهه: شريط مسؤول الأمم المتحدة، وهو يجهش بالبكاء لمقتل المدنيين في المقر الأممي، سجل أرقاماً قياسية، إلى جانب تغريدات مراسلي محطات أجنبية، تأثراً أو استنكاراً لما يجري حولهم، وأبرزها تغريدة مراسلة محطة "سي إن إن" التي وصفت المستوطنين المهللين لقصف المدنيين بـ"الحثالة". فيديوهات تظاهرات المعسكر الإسرائيلي، المؤيد للسلام، نافستها صور تظاهرات اليمين المتطرف الإسرائيلي، وشريط يبدو فيه هؤلاء يرددون شعار "لا مدرسة غداً في غزة، إذ لم يبق أي أطفال".

احتدمت المعركة في الإعلام الحديث، ونقلت خطابها العاطفي المشحون إلى الإعلام التقليدي الذي لم يمنع نفسه من التعبير عن المشاعر، بحجة المهنية والتجرد. الصفحة الأولى لصحيفة "الغارديان" البريطانية، غداة قصف مقر الأمم المتحدة، اختصرت موجة التعاطف، بعدما عنونت: "العالم يقف موصوماً بالعار" مع صورة طفلة فلسطينية مدماة الوجه. تناقلت مواقع الإعلام الحديث معلومات عن سحب هيئة "بي بي سي" البريطانية مراسلها في غزة، لتعبيره عن موقفٍ من النزاع، في حين أعلنت الهيئة أن المراسل المخضرم، جيريمي بوين، في إجازة، ولم يجر سحبه من غزة، لأي سبب آخر. وكان بوين قد قال إنه لم يشاهد دليلاً على استخدام حماس المدنيين دروعاً بشرية في غزة.

وقد سجلت المعركة الإعلامية على تأطير الحدث تغييراً، تمثل في تقدم السؤال بشأن التوازن في عدد الضحايا قائمة أسئلة الصحافيين لمحاوريهم الإسرائيليين في المحطات الأجنبية. ورافقت ذلك حركة ناشطة في المجتمع المدني، تمثلت في حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والدعوة إلى نزع سلاح إسرائيل، وصولاً إلى منع عرض مسرحي في مهرجان أدنبره للمسرح الحديث، ورفض أحد المسارح استقبال مهرجان السينما البريطانية الإسرائيلية، بسبب تمويله من السفارة الإسرائيلية. وجاءت استقالة وزيرة من حكومة كاميرون احتجاجا على غياب موقف قوي وواضح للحكومة من العمليات العسكرية ضد غزة لتتوج المواقف الشاجبة المتصاعدة ضد إسرائيل، إعلاماً وسياسة ومجتمعاً مدنياً.

إذاً، حققت صور الأطفال الضحايا إنجازاً ما، قد يقول بعضهم. ويتناسى المتنافسون على عرض "البضاعة" الإعلامية التي باتت مادة للإدانة، واستدراج مواقف الشجب كل يوم، أن تلك صور لأطفال قتلوا لا لدمى مشوهة. إنها صور لحيوات فقدت، قبل أن يتسنى لها أن تعرف معنى الحياة، في حين يتعاطى الإعلام العربي، أولاً، والغربي تالياً مع هذه الخسارة الفادحة على أنها مجرد أرقام: أين وصلت حصيلة قتلى أطفال فلسطين في مقابل أطفال إسرائيل؟

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، ارتكب النظام السوري مجزرة في قصفه بلدة الغوطة بالأسلحة الكيماوية. تناقلت مواقع الإعلام، الحديث والتقليدي، صور أطفالٍ راحوا في نوم عميق تلك الليلة، لم يستيقظوا منه، في حين بقيت صور الجثث المكتوفة الأيدي والمصطفة، وكأنها في ثلة انتظار للدخول إلى حصة مدرسية، كابوساً يؤرق ضمائرنا. نفى النظام مسؤوليته، ولم يتوصل التحقيق إلى أي نتيجة تذكر، ولم يتم إنزال أي عقوبة في حق أي طرف. في الشهر نفسه، تناقلت مواقع الإعلام الحديث، وبعض الإعلام التقليدي، صور قتلى عملية الفض الدموية لاعتصام رابعة العدوية في القاهرة، على يد الأمن المصري ضد المتظاهرين المؤيدين للإخوان المسلمين، احتجاجاً على إطاحة رئيسهم. في مشهد مماثل، اصطفت جثث القتلى داخل المسجد ملفوفة بالأبيض، وتناقل الإعلام روايات بشأن وضع الجثث في ثلاجات، لكثرة عددها، وتحلل بعضها، بسبب ارتفاع حرارة الطقس آنذاك. لم يتم أي تحقيق في مقتل هؤلاء الذي وصموا بالإرهاب، وعرض الإعلام المصري عملية قتلهم على أنها حماية للأمن القومي.

عدنا، إذن، إلى المربع الأول، إلى ما كنا عليه، مجرد صور في معارك إعلامية مؤقتة، لا تؤدي إلى أي تغيير، أو أي إجراء من شأنه أن يعيد الكرامة الإنسانية للضحايا الذين تحولوا إلى مجرد أرقام في حصيلة الإعلام. قد تكون صور أطفال غزة هزت الضمير العالمي، أو بعضه. قد تكون أحدثت حالةً من الاستنكار، فضحت الممارسات الإسرائيلية والصمت حيالها. ولكن السؤال الأهم: من يعيد لهؤلاء الأطفال إنسانيتهم، بعدما تحولوا مجرد أرقام؟ من يعطي لموتهم المأساوي معنىً ما، يتجاوز هدير المعارك الإعلامية؟ من سيذكر أسماءهم ووجوههم بعد بضعة أشهر؟

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.