محنة العقل الفقهي

محنة العقل الفقهي

20 اغسطس 2014
+ الخط -


حينما كنا نطالع في كتب التنويريين العرب، مثل الإمام المجدد محمد عبده، مساجلاتهم الفكرية والدينية مع بعض المستشرقين، بشأن قضايا وأمور عقائدية، كانت الغاية واضحةً، والطرائق إليها مشروعة وذات فعالية في الوصول إلى يقينٍ، يمكن التسليم به، فكانت العقول تتوقد، وتتفاعل بكفاءة مع المناظرات والمساجلات المتضمنة في كتبهم، أما ما يسترعي الدهشة فإن مثل مناقشة هذه الأمور تستدعي أقلاماً ومساحات طويلة في الصحف والمجلات التي تفند خطأ المقولات وصواب النقد الموجه إليها.

وبعيداً عن اجترار المساجلات الكلامية بين المنتمين لكل تيار ديني أو سياسي في مصر، فإننا نشهد على أرض الوطن صراعاً، ظاهره معركة العقل والنقل، وباطنه هوية وكنه الحداثة التي طالما أصبحنا مفتونين أمامها، وأمام إحداثياتها التي لا تنتهي، أو رافضين لكل نظرياتها التي أوجعت العقل، وأرهقته بتفاصيلها. وسواء قبلنا فكرة الحداثة أو رفضناها، فإننا بحق أمام فتنة مستعرةٍ، نمارس فيها سطواً نقدياً غريباً، يحاول كل فريق في معسكر حرب الحداثة أن يأتي بما يدعم طرحه، أو يدحض فكر الآخر. والمشكلة الأبرز هي أن مفكرين معاصرين يسعون نحو العقلانية، وليس إعمال العقل في سبيل أو على أعناق التراث الثقافي العربي، وأحياناً النصوص السلفية، ليست المشروطة بكتابات السلف الدينية، بل طروحاتهم النظرية والفكرية عامة.

وأصبحت معركة الراهن منطقها السائد هو الخوف بين فريقي الحداثة وفتنتها، والنصوصيين واستلابهم التاريخي، وهي معركة من أجل بقاء ثقافي مستدام، على الرغم من أن الحياة نفسها، في معظم الأحايين لا تضطرنا إلى التمسك بها. والخوف من كل طرح ثقافي يمارسه كل فريق هو بحق مواجهة المصادفة، من حيث التماس أية أخطاء لفظية، أو فعلية ترتكب.

الحداثة نفسها هي وعي بالزمن، باعتبارها حركة عقلية، وليست رفضاً لما هو بعيد. وأن تكون منفصلاً، معظم الوقت، عن الماضي بجملته، حتماً يؤدي الانفصال إلى توتر وقلق دائم بغير انقطاع، أو فترات وجيزة من الهدأة. ومن المحزن لثقافة عربية رائدة، قروناً بعيدة، أن يثير مفكروها ودعاتها قضايا خلافية، هي بالفعل رفض غير واعٍ لواقع مشهود، يحتاج إلى اجتهاد في فك شفراته المستعصية، وفكرة حفر ونحت أسئلة إشكالية، فقهية تحديداً، أرهقت بحثاً ودراسة ونقداً، حتى صارت في موضع التقعيد الثابت هي حالات من القلق الطموح غير الإيجابي الذي قد يحقق شهرة وقتية لأصحابها، سرعان ما تنتهي.

والجدير بالذكر في معركة الخوف بين حداثة مزعومة تمثل غواية لمستقبليها، وفقر في الاجتهاد، يتبناه دعاةٌ لا يكلفون أنفسهم جهداً في التناول للمسائل الفقهية الخلافية، بقصد تأويلها والكشف عن مقدماتها التاريخية، أن كلا الخطابين يفتقران إلى  الموضوعية، ومن ثم الإقناع، وكلاهما يقحمان المشهد السياسي في سياق خطابيهما، بصورةٍ تدعو المرء إلى النفور منهما على السواء، فإذا كان الخطاب الأول الحداثوي يستهدف إقصاء الآخر بغير رحمة، فإن الخطاب الآخر يميل إلى التكفير، أكثر مما يرنو إلى التنوير.

ثمة إشكالية أخرى، يعاني منها الخطاب الثقافي الراهن، وهي أنه خطاب جاهز بغير إعداد مما يكسبه صفة القمعية في تناول قضايا مغايرة لفلسفته، كما أن غياب البعد النقدي الذاتي لمقولاته واقتناصه على صيغ كلامية منحوتة يفقده القدرة الكاشفة لحركة المجتمع الحقيقية. والحقيقة التي يمكن التوصل إليها من خطابنا الثقافي المعاصر أنه يفتقر إلى حداثة الموقف.

avata
avata
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)