ما مدى واقعية التحرّر الأوروبي من الشريك الأميركي؟

24 يوليو 2018
ترامب وبوتين خلال قمتهما الأخيرة في هلسنكي (Getty)
+ الخط -
جاء موقف ألمانيا الأخير الداعم للموقف الأوروبي الرافض لعزل إيران، ليدلّ على نيّة برلين في أداء دور أساسي وأن تكون رأس حربة في النزاع الأوروبي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لجأ أخيراً لالتماس التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكي يكون قادراً على ممارسة الضغط على دول الاتحاد الأوروبي.

وأتت تصرفات ترامب وقراراته بعدم العودة عن فرض عقوبات جديدة على الشركات العاملة في إيران وعدم موافقته على طلب إعفاء الشركات الأوروبية، وكذلك زيادة الإنفاق العسكري لـ"حلف الأطلسي" وتوجيه الانتقادات اللاذعة لنظرائه الأوروبيين وإرباكهم، بالتشديد على عنصر المال، لتزيد من التضامن والتصلّب الأوروبي. ليبقى السؤال هنا هل يمكن لأوروبا أن تسلك طريقها متحرّرة من سلطة الأخ الأكبر، أميركا، وأن تمثّل مصالحها بشكل أكثر قوة تحت شعار "أوروبا موحدة" في وجه "أميركا أولاً"؟

يعتبر خبراء في الشؤون الاستراتيجية الأوروبية أنّ "وصف ترامب لبرلين بأنها رهينة لموسكو بسبب اعتمادها على النفط والغاز الروسيين ودفعها للمليارات مقابل الحصول على ذلك، في وقت تطلب من أميركا حمايتها من موسكو، ليس دليلاً إلا على أنه غير مهتم بتعزيز التكامل مع أوروبا، وهمّه فقط عقد اتفاقات ثنائية مع الأوروبيين. حتى إنّ الأمر وصل به لتحريض رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على مقاضاة الاتحاد الأوروبي، في ظلّ الجدل المثار بخصوص بريكست".
ويستبشر هؤلاء بباكورة الرد الأوروبي التي بدأت تأتي بثمارها عبر نجاح اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي واليابان، والذي وصفه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، المنتمي إلى "الحزب المسيحي الديمقراطي"، دافيد مكاليستر، بأنه خطوة أخرى إلى الأمام. واعتبر مكاليستر في حديث مع صحيفة "فراكفورتر الغماينه تسايتونغ" الألمانية أنّ "الاتفاق يمثّل نقطة تطابق مع النهج المتعدد الأطراف، في الوقت الذي تخلّت فيه أميركا عن المشاريع الطموحة للشراكة عبر المحيط الأطلسي والهادئ"، قبل أن يضيف أنّ "الاتفاق أكبر نجاح لسياسة التجارة الخارجية والأجنبية في المجلس التشريعي الأوروبي الحالي".
ولم يغفل مكاليستر في حديثه الإشارة إلى أهمية تعزيز الركيزة الأوروبية في إطار "حلف الأطلسي"، لكن من دون الابتعاد عن واشنطن التي يبدو أنّها تتخبّط، بعد أن شكّك ترامب بنتائج أجهزة استخباراته الخاصة حول التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، قبل أن يعود ويوضح أنه أساء التعبير.

وفاقم اندفاع ترامب نحو روسيا، لا سيما على النحو الذي ظهر في القمة التي جمعته مع رئيسها فلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي، التوتر في أوروبا، بما أوحى بتحقيق موسكو نصراً سياسياً كبيراً في خضم معركتها مع الأوروبيين.

وتسود خشية من أن يكون بوتين استطاع دفع ساكن البيت الأبيض إلى تقديم تنازلات كبيرة في المستقبل، وربما من بينها أن يوافق ترامب على الحد من تواجد "حلف الأطلسي" أو أن يقلّل من عدد المناورات في دول البلطيق. ويشكّل ذلك مصدر قلق كبير لأوروبا ودولها الشرقية بشكل خاص، فيما سيكون نجاحاً كبيراً بالنسبة لبوتين. وقد تكون هذه التنازلات الأميركية مقابل صفقة أو وعد روسي بتقليص الطموحات الإيرانية في الشرق الأوسط، على أن تحدّ أميركا من حضورها في المنطقة، وأن توافق على بقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد في منصبه.

وفي السياق، برزت دعوة وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، للشركاء الأوروبيين إلى التكاتف، بعد وصف ترامب التكتل الأوروبي بـ"الخصم"، إذ حثّ ماس في حديث لشبكة "فونكه" الإعلامية "على توحيد الجهود بعدما صار واضحاً أنه لم يعد بوسعنا الاعتماد الكامل على البيت الأبيض"، مضيفاً أنه "لا يمكن تحقيق ذلك إلا بأوروبا واعية ومستقلة". وهنا يتحدّث خبراء اقتصاديون عن إمكانية العمل على "حكم ذاتي استراتيجي"، يمكن أولاً أن يعوّض الشركات الأوروبية التي تعاني من الأضرار الناجمة عن العقوبات الأميركية، وبالتالي لجوء أوروبا إلى أسواق يمكن لشركاتها أن تكسب المال فيها مثل أستراليا ونيوزيلاندا، وأن تشتري حصصاً في شركات أجنبية أخرى، ما قد يسمح لها بحماية نفسها من سياسات الآخرين.

كما يمكن لأوروبا، بحسب الخبراء، استخدام عوامل القوة الحقيقية لديها والاستغناء عن القوة الناعمة والحوار، والتركيز على سلامة الاتحاد الأوروبي من التفكّك بمزيد من المسؤولية، وليس بالضرورة التركيز على الإنفاق على الدفاع. ويستشهد هؤلاء بحديث سابق لرئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، لصحيفة "دير شبيغل" والذي قال فيه "نحن لا نسعى لعسكرة الاتحاد الأوروبي، رغم أننا ننفق نصف الميزانية العسكرية تقريباً التي تنفقها الولايات المتحدة على الدفاع، ونحقق 15 في المائة من كفاءة الأميركيين، في حين أنه لدينا 178 نوعاً من أنظمة الأسلحة في أوروبا، فيما لدى أميركا 30 فقط. كما لدينا 17 نوعاً من الدبابات القتالية وأميركا لديها نوع واحد". ويشدّد هؤلاء الخبراء على ضرورة العمل لتحسين القدرة على الابتكار والازدهار والاستقرار في العصر الحديث، مع ما يتطلّب ذلك من تجديد للسياسة الخارجية لأوروبا، وأن يكون المبدأ التوجيهي هو حمايتها من عالم يزداد خطورة وشراسة.

ولكي ينجح التضامن الأوروبي ويحقّق النتائج في ظلّ التحديات الكثيرة التي يواجهها، لا سيما في ما يتعلّق بالاتفاق النووي مع إيران، يقول خبراء في الشؤون الأوروبية إنها "لحظة الحقيقة للاتحاد ليتمكّن من إقناع إيران بعدم الردّ على استفزازات ترامب، وتقديم البدائل لها خصوصاً الاقتصادية". مع العلم أنّ البعض يعتبر أنّ الأعمال التجارية مع إيران لا تستحق المخاطرة، تحسباً من فرض غرامات عالية أو حتى ملاحقة قضائية من الولايات المتحدة، وخصوصاً بالنسبة للبنوك التي تعتبر أساسية للقيام بتمويلات أكبر، والوصول إلى الأسواق المالية الأميركية.

ويبرز خبراء في الشؤون الاقتصادية الأوروبية أنه يمكن الاستنتاج للوهلة الأولى أنّ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي يعتبر خدمة لموسكو، والسبب في ذلك هو عدم التيقّن في أسواق النفط العالمية، والذي تسبب بارتفاع الأسعار، إلى جانب ارتفاع ملحوظ في سعر صرف الروبل الروسي، مع فشل الاتفاق والانخفاض الكبير للصادرات الإيرانية النفطية.

في المقابل، هناك من يرى أنّ إنهاء ترامب للاتفاق النووي يمكن أن يبشّر بعهد جديد مريح لروسيا، إذ بات المطلوب من بوتين أن يقرّر بين الجانبين الإسرائيلي والإيراني، لتبقى المشكلة التي تهدد القيصر في كيفية استمرار التوازن في علاقاته السياسية على جبهات عدة في الشرق الأوسط، والتي ترتكز على التعاون مع جميع الأطراف من دون عائق.

لكن قد يكون لهذا الأمر تداعياته السياسية السلبية وتحديداً على العلاقات الأوروبية الأميركية، وبالتالي تزايد الشعبوية المعادية لأميركا والسعي للتقرب من روسيا، ما يستدعي تكثيف الحوار مع واشنطن، مع الاعتراف بأنّ سياسة ترامب قد تقوّض النظام العالمي الدولي بفعل العواقب الاستراتيجية غير المتوقعة، وهذا ما أشار إليه نواب أوروبيون بينهم ألمر بروك عندما قال في حديث تلفزيوني "يجب أن ندرك أنّ الولايات المتحدة كانت دائماً الحليف الأقرب لنا، والتحالفات مع روسيا والصين وطهران لا يمكن أن تحلّ محلّ الولايات المتحدة. أوروبا بحاجة إليها في حلف الأطلسي وهناك الكثير من القيم المشتركة".

كذلك، هناك رأي يقول إن العلاقات عبر الأطلسي مهمة جداً على الرغم من الخلافات. ويساند هذا الموقف نائب وزير الخارجية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أحد مهندسي الاتفاق النووي مع إيران، أنطوني بلينكن، الذي اعتبر قبل فترة في مقابلة مع صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية أنّ "أسس التحالف الجوهرية عبر الأطلسي ما زالت سليمة، والتبادل الاقتصادي والسياسي وثيق، هذا عدا عن الروابط الثقافية". ولفت إلى أنّ "هناك تعاونا قائما بخصوص العقوبات على روسيا وملف شبه جزيرة القرم". لكنه تابع أنّ "استمرار الإدارة الأميركية بهذا النهج سيصعب عمل الحكومات الأوروبية مع الولايات المتحدة".

ولفت بلينكن إلى أنّ شعار ترامب "أميركا أولاً"، سيعني "أميركا لوحدها"، لأنه "لا يمكن لبلد أن يواجه تحدباً ما وأن يجد حلاً له بمفرده، فضلاً عن ضرورة العمل سوياً على مواجهة الشبكات الإرهابية والجرائم الإلكترونية، وانتشار الصواريخ البالستية العابرة للقارات والاحتباس الحراري". وأكّد أنّ "أوروبا شريك تقليدي وإذا فقدناها سنخسر الكثير"، متجنّباً الجواب عما إذا كان ترامب يهدف بسياسته الخارجية إلى صرف النظر عن فضائحه، أم هو فعلاً يحاول تنفيذ وعوده الانتخابية نقطة تلو الأخرى، وهدم كل ما بناه سلفه أوباما.

في المحصلة، على الاتحاد الأوروبي أن يظهر أنّ لديه ميزة واضحة وقدرة على التفاوض نحو الأفضل، والبحث عن حلول للمصلحة المشتركة، وليس فقط للمصالح الأميركية، بغضّ النظر عن الاتفاق النووي مع إيران أو التخلّف الأوروبي عن تمويل حلف الأطلسي، الذي شهد زيادة بنسبة 5 في المائة العام الماضي، لأن البديل لا يمكن أن يكون العمل بشكل أوثق مع الأنظمة الاستبدادية والمعارضة في موسكو والصين أكثر من الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تتفهمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ومع تجاهلها استفزازات ترامب، تؤكّد ميركل على أهميّة النتيجة، وهي الالتزام الواضح للجميع بـ"حلف الأطلسي" والإسهام فيه في مواجهة الأوضاع الأمنية المتغيرة، رغم شطحات ترامب الفوضوية والخطيرة، وتهديده مرات عدة بعدم التعاون والالتزام. وهنا يتكشف ضعف القيادة في أوروبا لتُطرح التساؤلات بشأن التعاملات المستقبلية مع روسيا على الرغم من دراية الدول الأوروبية الأعضاء في "الأطلسي" ومعظم السياسيين، أنّ التخلّي عن أميركا يعني نهاية الحلف وكارثة للأمن عبر الأطلسي.

المساهمون