ماذا رأى القاتل في عيون ضياء ويسر ورزان؟

ماذا رأى القاتل في عيون ضياء ويسر ورزان؟

23 فبراير 2015

مسيرة تضامن في غزة مع ضحايا "تشابل هيل" (12فبراير/2015/الأناضول)

+ الخط -

لماذا قتل الأميركي، كريغ ستيفن هيكز، الأميركيين الثلاثة، ضياء ويسر ورزان؟ لماذا اقتحم رجل أميركي أبيض عادي مجهول منزل جيرانه، وأفرغ ثماني رصاصات في ثلاثة وجوه، لطالب طب أسنان في الثالثة والعشرين، وزوجته التي تصغره بعامين وتدرس مثله، وشقيقتها طالبة الهندسة المعمارية التي لم تبلغ العشرين بعد؟
في السؤال كثير من عناصر الإجابة عنه. لكن السبب الأول لقتلهم لم يكن مزاحمتهم إياه على مكان لسيارة، بل مزاحمتهم إياه على مكان أوسع. يزاحمونه على صورة أميركا التي في ذهنه، ويشعر أنه يخسرها لصالح هؤلاء. إنهم كل ما لا يتمنى رؤيته في عدوه، الآخر، المسلم ربما، أو ابن العرق المختلف.
العيون التي أطفأها هيكز كان يرى فيها مستقبلاً واعداً صار خلفه، ولن يستطيع اللحاق به، هو الذي لم يحقق نجاحاً يذكر، إلا في تجميعه ترسانة أسلحة في بيته، تشبه تماماً ترسانة الأفكار

المحشوة في دماغه، بلا أي سياق أو ترتيب، عن الأديان وعن الإلحاد، وعن التطرف نفسه الذي كان غارقاً فيه.
هيكز نموذج لأميركي ساذج، يميني متطرف، يسمي نفسه "الوطني"، ويظن أنه مؤسس البلد وصاحبه، والمقاتل من أجله، ومن أجل قيمه، وصانع مجده. ولديه منظومة تهيؤات راسخة وعميقة عن تفوقه الطبيعي كأبيض، على كل الأميركيين الآخرين. منظومة ليس من السهل أن تتزعزع في ظل منتوج إعلامي وسينمائي شعبي، يؤكد تصوراته عن نفسه، أولا، ويبقيه جاهلاً بأميركا الحقيقية التي تجري خارج الشاشات، وينخرط فيها الجميع من المولودين فيها إلى المهاجرين إليها، على مدار الساعة. أميركا التي يمنعها الهدير المهول لآلتها، من الاستماع إلى المخاوف العظيمة التي تدور في داخل رجل على حافة الخمسين، يعاني الغضب المكبوت لمن يشعر أن ما مر من عمره هو أفضل ما سيحصل له، وأن السماء أوصدت في وجهه باب تحقيق الأحلام، وكل ما بقي له هو انتظار موت معجل أو مؤجل.
وهي مأساة مضاعفة لمن يظن أن المطلوب منه، كأبيض، تجاه نفسه وعرقه وبلده، أكبر بكثير مما قدمه. مأساته تقع في صورته المبالغ فيها عن نفسه، والتي إذ تكسر، يسقط في ضعف عميق، ولا يجد إلا ترسانة الأسلحة، والتطرف الأبله الخطر، حبل نجاة وحيد من قلة الحيلة التامة التي لا تليق بمثله، على ما يظن. وسيجد ما يكفي من المبررات، ليلوم الغرباء الذين يغيرون أميركا.
المحشو بخزعبلات تختصر الآخر بشيطنته، يلخص عدوه بنموذج داعش. زمرة من المتطرفين دينياً، المسلحة والقوية مثله، والتي لا يختلف اثنان على بشاعتها المطلقة، وضرورة القضاء عليها. والمقارنة بينه وبينهم ستحقق لصورته فوزاً سهلاً. هو أرقى وأكثر تفوقاً، ولا بد سينتصر، كما يجب على النهايات السينمائية أن تكون. داعش العدو يريحه ويطمئنه. فهو يعطي تطرفه وتسلحه مشروعية، ويصير له معنى، كأميركي "وطني"، ويصير وجوده حاجة لأميركا.
ماذا عن ضياء ويسر ورزان؟
إنهم النقيض التام. هم الحلم الأميركي. وفي حالة القاتل، هم الكابوس. مسلمون مولودون متخففون من هواجس لغوية ودينية واجتماعية لآبائهم وأجدادهم من المهاجرين. ليس لدى الطلاب الثلاثة أزمة هوية. هم أميركيون مسلمون. هذا كاف بالنسبة إليهم. ينتمون إلى البلد بالقدر نفسه الذي ينتمي إليه باراك أوباما وزوجته وابنتاهما. يمارسون شعائرهم الدينية، كما كفلها لهم الدستور، ويكملون تحصيلهم العلمي بما ينبئ بمستقبل لامع. وهم، قبل هذا كله، مسالمون ومدنيون وضد السلاح.
في الحرب الدائرة في ذهن هيكز، هؤلاء أخطر بمراحل من داعش عليه. هم كل ما لا يستطيع أن يكونه: الشباب والصورة المضيئة المثالية للشاب في مجتمعه. وهم، أيضاً، المسلمون المندمجون بلا خوف في مجتمع يرفض هيكز تصديق أنه تغير، وتطور بما يكفي لأن يدمج أبناء الأعراق "الأقل" فيه، بل يتحول إلى مجتمعهم هم. والأنكى أن هذا المجتمع ناجح من دون خدمات هيكز وترسانة أسلحته.
حين اقتحم بيتهم عليهم، كانت الحرب تدور في جمجمته، تقول له، إنه المقاتل الأخير في ساحة معركتها. وفي عيون هؤلاء الثلاثة، رأى هذا المحارب أميركا أخرى تختلف تماماً عما يريده منها. أميركا حلوة ملونة، لا مكان لمثله فيها، حتى ولو بالكاد اتسع لسيارة. فضّل أن يطفئ هذه العيون، لكي يتخلص من الخطر الهائل على حبيبته التي تتسرب من بين أصابعه كالماء، ولا يبقى منها شيء له. في معركته الأخيرة، كان المسكين يقاتل من أجل أميركا التي لا متفوق ولا وطني ولا ناجح فيها غيره. أميركا التي هو سوبرمانها الوحيد، لا يضعف ولا يشيخ ولا يمرض ولا يموت. أميركاه التي لن يراها قط، حتى بعدما أطفأ عيوناً كانت ملأى بأحلام جميلة.