قرى مصرية تحكي سيرة نكبة فلسطين

قرى مصرية تحكي سيرة نكبة فلسطين

15 مايو 2014
أجيال فلسطينية تعيش في مصر (العربي الجديد)
+ الخط -
   

ريف مصري خالص في قلب الدلتا المعجونة بطمي النيل، تستوقفك فيه ملامح شامية واضحة، وبعض الكلمات الغريبة على قاموس القرية المصرية، فضلا عن أسماء العائلات التي لا يعرفها المجتمع المصري.

المكان: قرية "عرب درويش" بمركز فاقوس في محافظة الشرقية، والزمان: بعد نكبة 15 مايو/ أيار 1948، والواقعة: نزحت عشرات الأسر الفلسطينية واستقرت هناك. امتزجت بطين القرية، واختلطت الملامح، وتداخلت الأنساب، وتكون نسيج مصري فلسطيني جديد، ليس في الشرقية وحدها، ولكن في عدد من محافظات مصر.

في ذكرى مرور 66 عاما على النكبة، كان لـ"العربي الجديد" لقاء مع بعض أهالي مصر الفلسطينيين بالأساس.

"وفق آخر إحصائية أعدت مطلع العام الجاري، تشعبت عائلة الشيخ عيد، إلى 370 أسرة، أو "ربع" بالمعنى الفلسطيني الدارج، والحديث هنا على لسان خالد ميتم، أحد أهالي قرية عرب درويش، وأمين صندوق رابطة القرية التي حملت اسم العائلة الفلسطينية النازحة منذ نكبة 48.

ويضيف ميتم: "تتشعب العائلة الكبيرة في عدة قرى ومراكز ومحافظات مصرية، ففي قرية عرب درويش يوجد 370 أسرة، وفي كفر صقر بالشرقية 100 أسرة، و86 أسرة في أبو حماد والصالحية بالشرقية. فضلا عن 96 أسرة في باقي محافظات مصر خاصة المنوفية والبحيرة والقاهرة والعريش بشمال سيناء، 672 أسرة فلسطينية تابعة لعائلة الشيخ عيد وحدها".

"أشهر الأسر أو "الأرباع" المنحدرة من عائلة الشيخ عيد الفلسطينية، أطلقت عليها أسماء الأجداد الذين نزحوا أنفسهم، ومنهم "العوايضة، نسبة لعوض، والسماعنة، نسبة لإسماعيل، والخلايلة، نسبة لخليل، والبراهمة، نسبة لإبراهيم، وأبو عيادة، والدواديين، نسبة لداود، والجبور، والسلالمة، نسبة لسليمان" يتابع ميتم حديثه عن عائلته الأم التي يفخر بالانتماء إليها.

لا يزال كبار السن في العائلة الأم أو الأسر المتشعبة منها، خاصة ممن عاصروا النكبة، يحتفظون بمفاتيح بيوتهم في فلسطين، على أمل العودة يوما إليها، مهما طال أو قصر الزمان. هذا المفتاح يتوارثه جيل بعد جيل، فأمل العودة هو حلم 66 عاما مضت، وحلم الحاضر والمستقبل القريب أو البعيد.

يتابع ابن العائلة حديثه عنها "نحكي لأبنائها عن فلسطين، كما حكا لنا آباؤنا، وكما حكا لهم جدودنا، وكما حكا جدود الجدود"، مستطردا "نحكي كيف خرجوا وليش خرجوا وكيف صاروا ومين بقي ومين راح يبقى ولمين الأرض.. حتما سيعودون".

قبل أن ينهي ميتم حديثه، أشار إلى عدة مشاكل تواجه فلسطينيي مصر، منها عدم قدرة الأبناء على الالتحاق بالكليات العلمية باهظة التكاليف، فهم مجبرون على الكليات النظرية فقط، فضلا عن عدم قبولهم في مراحل التعليم الأساسي في المدارس الحكومية، وبالتالي يلتحقون بالمعاهد الأزهرية فقط.

كما يتكبد الفلسطينيون المصريون مصاريف الإقامة وجواز السفر وتراخيص العمل، ولا يحق لهم البقاء خارج مصر أكثر من ستة أشهر، بالإضافة إلى قلة فرص العمل المتوفرة لهم، مطالبا السفارة الفلسطينية والحكومة المصرية، بالتعامل معهم باعتبارهم مصريين "هناك أجيال ولدت وتربت وعاشت في مصر، ولكنها تعامل معاملة المغترب"، على حد تعبيره.

بصمة للفلسطينيين وضعها المهاجرون حيثما استقروا في مصر، فقرية "عرب أبو زكري" بمركز قويسنا في محافظة المنوفية، تشبه كثيرا القرى التي سكنها الفلسطينيون وحملت أسماء عائلاتهم فيما بعد، يسكن فيها الفلسطينيون بالقرب من بعضهم، في منازل متجاورة، قبل أن تتداخل علاقات المصاهرة والنسب بينهم وبين العائلات المصرية، فتفتح البيوت على بعضها وتدمج الريف المصري بالتراث الفلسطيني في نسيج واحد.

لا تعرف مصر كثيرا تجارة الجِمال، أو بيع لحومها، ولكن في القرى التي سكنها الفلسطينيون، ستجد على طول الطريق المؤدي إليها، الجِمال ورعاةٍ لها، ومحلات جزارة مكتوب عليها أسعار لحوم الجمال، وأسماء عربية كثيرة ملحق بآخرها صفة "الجمال"، نسبة لتجّار الجمال.

ومن ريف القرية إلى عبق التاريخ، يروي السيد يوسف أبو الكاشف، ذو الـ55 عاما، ووالده الشيخ الذي تجاوز عقده الثامن، النكبة، كما لو أنهم يسطرون كتبا للتاريخ.

يقول أبو كاشف الأب: "في 14 مايو/ أيار 1948، انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين المحتلة، وفور أن رفعت بريطانيا الانتداب أعلنت إسرائيل قيام دولتها. وما هي إلا ساعات وكانت الجيوش العربية في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي".

"تقدمت الجيوش العربية في فلسطين في 15 مايو، لدرجة أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، دخل الفالوجة، إلا أنه حوصر بها، وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي يتقدم هو الآخر، ويستولي على المدن الفلسطينية، حتى إعلان الهدنة".

يتابع الشيخ حديثه، "في هذه الهدنة، كانت إسرائيل قد فرضت سيطرتها على كل فلسطين ما عدا قطاع غزة، والضفة الغربية، فاضطر الفلسطينيون في المدن المحتلة إلى النزوح باتجاه الضفة أو القطاع، ومنهم من تمكن من النزوح خارج فلسطين، فتوجهوا ناحية لبنان وسورية والأردن ومصر".

ويتابع الشيح حديثه "جزء كبير من النازحين توجهوا قبالة لبنان وسورية والأردن، باعتبارها أقرب أرض لهم، بحكم الموقع الجغرافي، وقليلون فقط نزحوا باتجاه مصر، لأنهم خشوا من طول المسافة، وقطع صحراء شبه جزيرة سيناء، ومن سافر منهم إلى مصر، تمركز في الشرقية وطنطا والمنوفية".

وكان الشيخ أبو كاشف وعائلته، ممن نزحوا من بئر السبع باتجاه قطاع غزة، ولم يترك فلسطين، "قطاع غزة كان يضم 8 مخيمات للنازحين من المدن الفلسطينية، والضفة كان بها حوالي 10 مخيمات، ووصل عدد المهاجرين من فلسطين في هذا الوقت قرابة 750 ألف، ومع مرور 66 عاما على النكبة، وصل عدد الفلسطينيين المهاجرين خارج الحدود، 6 مليون فلسطيني".

يحتفظ الشيخ بتفاصيل الأرقام وأبعاد الزمان والمكان في ذاكرته. "الآن قطاع غزة يسكنه حوالى مليون فلسطيني، والضفة يسكنها حوالى مليون وربع المليون فلسطيني، أما الفلسطينيون الذين بقوا في مدن فلسطين المحتلة، والذين يطلق عليهم عرب 48، فعددهم يتراوح بين 650 إلى 700 ألف، خاصة في مدينتي المثلث والجليل. منهم مثلا، محمود درويش، وتوفيق زياد"، الشاعران الفلسطينيان.

يكمل السيد يوسف أبو كاشف، يعمل إداريا بقسم الصيانة بمستشفى فلسطين في القاهرة، ويبلغ من العمر 55 عاما. "الجزء الثاني من الهجرة، بدأ مع النكسة الثانية عام 1967، حينها هاجرت مع عائلتي من قطاع غزة بعد هجرتنا الأولى لها، إلى الأردن، ومن الأردن إلى مصر".

يضيف أبو كاشف "عندما حدث العدوان الإسرائيلي الثاني حاصرت قوات الاحتلال ما تبقى من فلسطين وهضبة الجولان في سورية وشبة جزيرة سيناء في مصر، نتيجة الهجرة الثانية، التي تركنا فيها أرضنا. حينها هاجر جزء كبير من أهالي الضفة والقطاع باتجاه عدد من الدول العربية ومن بينها مصر".

تقع "جزيرة فاضل" على الطريق الزراعي بين مركزي بلبيس وأبو كبير بمحافظة الشرقية في دلتا النيل. أكبر شوارع القرية لا يتعدى عرضه متران، وأغلبها مسدودة، والمنازل فيها مبنية إما بالطين أو الطوب اللبن، أو عشش مصنوعة من الخوص أو أوراق النخيل، ومسجد القرية ليس به فرش للأرضية، إلا بعض الحصير الذي لا يغطيه بالكامل.

"مريفة سالم" سيدة عجوز تخطت الستين، تستضيف في منزلها "تمام مرازيق" صديقتها التي تهدم بيتها، لتعيشان تحت سقف واحد من الخوص.

الجيلان الأول والثاني من اللاجئين الفلسطينيين حافظوا على العزلة، فلم يتزوجوا إلا من فلسطينيين، إلا أن الجيلين الثالث والرابع خرجا من هذه العزلة واختلطا بالزواج من مصريين ومصريات، رغبة في الحصول على الجنسية، إلا إن أغلبهم لم يستطيعوا ذلك.

رجل وحيد في القرية يرفع علم فلسطين فوق منزله الذي بناه من الطوب اللبن، وأشخاص معدودون على أصابع اليدين هم من يتذكرون بلادهم الأصلية، وأغلبهم ممن تخطت أعمارهم الـ 70 عاما، وهم من الذين عايشوا النكبة، وكانوا وقتها في السادسة أو السابعة من عمرهم.

مريم عبيد، مسنة، تخطت الـ70 عاما، قالت لوكالة الأناضول "حلمت طوال عمري أن أحصل على الجنسية المصرية ولكنني لم أستطع. رغم أن أولادي تزوجوا من مصريات، إلا أن أزمة الحصول على الجنسية مازالت قائمة".

من الشرقية إلى المنوفية والبحيرة والعريش والقاهرة، تختلف التفاصيل، ولكن الروايات تحكي قصة واحدة. قصة الأرض.

دلالات