في التوتر السنّي الشيعي الراهن

في التوتر السنّي الشيعي الراهن

09 مايو 2014

لقاء سعودي ـ إيراني (أرشيفية أ.ف.ب)

+ الخط -

يَتَعَزَزُ اليوم، أكثر فأكثر، التناقض المذهبي السني الشيعي، مسعراً بذلك نيران اللهب في منطقةٍ لا تكاد تعرف الهدوء والاستقرار. بل إن هذا التناقض التاريخي، بلغ، اليوم، حداً من الخطورة لا يمكن التغاضي عنه، خصوصاً في ظل تحديات أخرى تواجه الأمتين العربية والإسلامية، داخلياً وخارجياً.
ولعلّه من نافلة القول إن ما جرى في العراق، بعد اجتياحه أميركيّاً عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين، وفرض المُحتَلِّ الأميركي عليه معادلة طائفية، عزّز من نفوذ إيران وحلفائها فيه، كان بداية إبراز هذا التناقض بشكله الساخن اليوم. وهذا لا يعني، بحال، أن احتلال العراق كان فاتحة التوتير السني ـ الشيعي، فهذا التوتر، بل قل التناقض والعداء، قائمان منذ قرون، يخفتان حيناً ويبرزان أحياناً أخرى. لكن، ما جرى في العراق منذ عام 2003 وتسنّم الشيعة قيادته، ضمن صفقة أميركية ـ إيرانية، دفع الملف إلى الواجهة، بشكله البشع الحالي.
وعلى الرغم من أن جمهور الأمة، بسنييها وشيعييها، تجاوز، مرحلياً وجزئياً، هذا التناقض الذي أبرزه العراق، عبر التفافه حول مقاومة حزب الله (الشيعي) العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف عام 2006، إلا أن ثورة سورية وتظاهرات البحرين ستعيدان دفع هذا التناقض إلى الواجهة من جديد.
في السياق السوري، وقفت إيران بقوة مع حليفها، متمثلاً في النظام السوري الذي يرأسه بشار الأسد، فيما اتخذت موقفاً معارضاً لنظام البحرين، منحازة في ذلك لصالح المتظاهرين البحرينيين. في المقابل، انحازت السعودية، ومعها دول خليجية وعربية أخرى، ضد النظام السوري، ولصالح النظام البحريني.
طبعاً، ثمّة حسابات سياسية واستراتيجية كثيرة تبرّر مثل هذه المواقف المتناقضة، غير أن أكثر عنصر فيها يحظى بالملاحظة والتعبئة، يتمثّل في البعد المذهبي. فنظام الأسد يمثّل الأقلية العلوية الشيعية، ولهذا، دعمته إيران وعارضته السعودية، في حين تبنّت إيران موقف المتظاهرين البحرينيين من الشيعة، ودعمت السعودية نظام البلد السني.
مرة أخرى، أعلم أن ثمة حسابات أخرى تبرّر هذه الانحيازات، لكنها وجدت في الحضن المذهبي، أو الطائفي، ملاذاً، يسبغ عليها الشرعية، ويعطيها الفاعلية المطلوبة في ساحات القتال أو على أرض الفعل. ومن ثمَّ، لا عجب حين تعلم أن كثيراً من قنوات الضخّ الطائفي تلك التي تملأ الأثير، مدعومة من إيران والسعودية.
إذن، ثمّة تحشيد وضخّ طائفيان ومذهبيان مبرمجان ومحسوبان، اليوم. لكن، هل يكفي هذا العامل في تفسير الظاهرة الراهنة؟
الجواب وبدون تردد: لا.. أبداً.
يتحدث كثيرون عن التوتر المذهبي السني ـ الشيعي الأخير، وكأنه حدث مستجدّ على الأمة المسلمة، ووليد المعطيات السياسية الراهنة في قلب العالمين العربي والإسلامي. ويتناسى أولئك أن ثمة توتراً وحساسية بين الطرفين، بدآ بالتبلور في العهد الأموي، واتخذا شكلاً دموياً، في مراحل كثيرة في العهد العباسي، واستُكْمِلاَ في المرحلة العثمانية. بل إن الخلافة العباسية السنية نفسها سقطت تحت الوصاية البويهية الشيعية، والتي أحكمت قبضتها على العراق بين 945 ـ 1062 م. ولم يعد العراق إلى حاضنته السنية، إلا عندما أَسقط السلاجقة، الأتراك السنّة، حكم البويهيين. أيضاً، تشير مراجع تاريخية كثيرة إلى أن إيران نفسها كانت بغالبية سنية، إلى أن قام إسماعيل الصفوي بتشييعها بحدّ السيف والقهر، مطلع القرن السادس عشر الميلادي. الأمر نفسه، من ناحية التوتر والصراع بين الطرفين، ينسحب على مصر ومناطق كثيرة في سورية التي خضعت، في فترات متفاوتة، لنفوذ شيعي ضمن دائرة الإسلام السني، الأوسع والأكبر.


ومن ثمّ يغدو الحديث عن أن هذا صراع "مُفْتَعَلٌ"، أمراً مجافياً للحقيقة والتاريخ، بل وغير مفيد أيضاً. لماذا؟ لأن في نفي هذا التوتر، القائم فعلاً، قروناً طويلة. وتسفيه القائلين بذلك، تعقيد لمحاولات نزع فتيل التوتر. فكثيرون لن يقتنعوا بذلك. ويكفي أن نُذَكِّرَ، هنا، بأن المبرّر الأوّلي الذي قدمه حزب الله، وغيره من المقاتلين الشيعة من العراق وباكستان وغيرهما، لتورطه في القتال إلى جانب النظام السوري ضد مقاتلي الثورة، تمثّل في حماية "المقامات المقدسة" لدى الشيعة في سورية، خصوصا مقام السيدة زينب قرب دمشق. كما أن "جهاديين" عرباً كثيرين جاؤوا مدفوعين بحافز محاربة "النظام النُصَيريِّ".
يقول بعضهم إن هذا الشرخ السني ـ الشيعي إنما عَمَّقَهُ الغرب الإمبريالي الاستعماري وإسرائيل. وهذا كلام صحيح، لا ينبغي لأحد أن يشكّك فيه. فثمّة دراسات أميركية كثيرة أعدّت حول الموضوع، ويكفي أن نُذَكِّرَ، مرة أخرى، بما فعلته إدارة جورج بوش الابن في العراق، بفرضها المعادلة المذهبية والطائفية على ذلك البلد، بعد احتلاله عام 2003، وهي معادلة فتَّتت البلد وشرذمت شعبه. ونُقلت تصريحات كثيرة عن مسؤولين إسرائيليين أن الصراع في سورية مصلحة إسرائيلية، من ناحية أن أعداء إسرائيل من السنّة والشيعة يستنزفون بعضهم بعضاً، على الأرض السورية، على أساس من معادلة سني ـ شيعي.
ولا ينبغي أن يعمينا هذا، مرتين، ثالثة ورابعة، عن حقيقة أن هذا التوتر والصراع سابقان على مرحلة الاستعمار واصطناع إسرائيل. ومن ثمَّ، فإن أي مسعى لمحاولة إصلاح هذا العَطَبَ الكبير بين جناحي الأمة الإسلامية ينبغي أن يُقِرِّ بالحقائق، كما هي أولاً. ثمَّ ننظر، ثانياً، في كيفية توظيف هذا الخلل في العلاقة من قبل خصوم الأمة الخارجيين ضد جميع مكوناتها. وثالثاً، لا بدّ لأيّ مسعى إلى تسوية بين الطرفين أن يتجاوز ذلك الوهم القائم على محاولة اجتراح مصالحة تاريخية بين رؤيتين وروايتين متعارضتين للدين والتاريخ. فهذا من باب تبديد الجهود، وتضييع الوقت، بما ليس من ورائه أمل بإنجاز، أو طائل.
جلُّ ما ينبغي أن نسعى إليه يتمثّل في التعايش السلمي ضمن دائرة الاختلاف، مع ضرورة وجود احترام مقدسات الآخر، وبعيداً عن دعم أي نظام قمعي، سواء كان يتدثّر بعباءة التسنّن أم بعباءة التشيُّع. أيضاً، ينبغي أن يَسْتَصْحِبَ أيَّ محاولةٍ لرأب الصدع بين الطرفين دعمُ أيِّ مقاومةٍ عندما تكون بندقيتها موجهة نحو عدو الأمة الخارجي.
هل أظن ذلك ممكناً؟ أشك، على الأقل في المديين القصير والمتوسط، فوطأة أكثر من ألف سنة من التوتر والصراع أقوى من حسابات العقل والواقع. أيضاً، ينبغي ألا نكون حالمين، فثمّة تجار في الجانبين ينتفعون من آلية كهذه للتعبئة ضد "الخصم" التاريخي والمذهبي، بغرض تبرير قمعهم وتسلّطهم.