في أسباب إقالة بولتون وتبعاتها

في أسباب إقالة بولتون وتبعاتها

18 سبتمبر 2019
+ الخط -
أقال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، في العاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، لخلافاتٍ بينهما طاولت أكثر من ملف في السياسة الخارجية الأميركية الرئيسية، في مقدمها العلاقات مع الصين وكوريا الشمالية وإيران وأفغانستان وروسيا. 
رفض بولتون، المعروف بصقوريته وتشدّده، مفاوضات ترامب المباشرة مع زعيم كوريا الشمالية، كيم كونغ أون، ورأى أنها لن تعود بفائدة، ورفض مفاوضاته مع حركة طالبان الأفغانية، ورغبة ترامب في التفاوض مع قادة إيران، وتقارب ترامب من روسيا، وحاول دائما التشدد في الموقف من الصين.
في كل تلك المواقف، رأى بولتون أن المفاوضات خيارٌ يأتي بعد إخضاع أميركا خصومها، فهو يؤمن باستسلام هؤلاء أولا، بممارسة ضغوط قصوى عليهم، وعدم التردّد في استخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر. لذا حث بولتون ترامب على توجيه ضربة جوية لإيران، بعد إسقاطها طائرة أميركية بدون طيار في يونيو/ حزيران الماضي، وهي الضربة التي أوقفها ترامب. كما عارض جهود ترامب للتوصل إلى اتفاق مع حركة طالبان، يقضي بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان من دون مهاجمة الحركة، مفضلا تصعيد العمل العسكري ضدها.
ولا تعبر الخلافات السابقة فقط عن فروق بين ترامب وبولتون تجاه سياسات معينة، بل عن فروق جوهرية بين رؤيتيهما للسياسة الخارجية الأميركية. حيث يؤمن بولتون بسياسة أحادية 
تدخلية، وبتغيير النظم، فهو يعتقد أن دور أميركا الدولي يتمثل في قيادة العالم منفردة، من دون الاعتماد كثيرا على التحالفات الدولية، ومن دون استشارة حلفائها، مستخدمة قوتها العسكرية كلما تطلب الأمر، ومستعدة للتدخل لإعادة بناء النظم المعارضة لها، كما حدث في حرب العراق التي كان يولتون وما زال من أكثر المدافعين عنها (عمل بولتون مساعدا لوزير الخارجية ثم سفيرا في الأمم المتحدة خلال عهد جورج دبليو بوش). ولذا لا يعوّل على التفاوض مع خصوم أميركا. ويهدف بالأساس إلى ممارسة ضغوط قصوى عليهم تؤدي إلى استسلامهم. ولذا كان من أكبر الداعمين لخروج ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، ولسياسة الضغوط القصوى عليها.
ويتفق ترامب مع بولتون في إيمانه بالأحادية على صعيد السياسة الخارجية، من خلال الانشغال بمصالح أميركا أولا، وعدم التعويل على العمل مع الحلفاء، أو على المؤسسات والمعاهدات الدولية. ولكنه يختلف معه في أمرين رئيسيين: رفض التدخل العسكري وتكاليفه الباهظة. ورفض سياسة تغيير النظم. حيث أعلن ترامب بشكل متكرّر عدم رغبته في تغيير النظام الإيراني، أو الكوري الشمالي، وأن اهتمامه ينصب على عقد صفقة سياسية مع كليهما، تؤدّي إلى تحقيق أهداف أميركا في البلدين.
وهذا يعني أننا أمام فروق جوهرية بين رؤية الشخصيتين لدور أميركا حول العالم، وأمام رؤية خاصة للسياسة الخارجية الأميركية يتبنّاها ترامب، باتت تتضح باضطراد، وبات يرفض التراجع عنها، حتى لو اضطر للتخلص من كبار مستشاريه. وهو ما يطرح السؤال بشأن تبعات إقالة بولتون، وكيف ستؤثر على سياسة ترامب الخارجية، على الأقل خلال الفترة المتبقية من ولايته الأولى (حتى أواخر العام المقبل).
أولا، فيما يتعلق بتوجه السياسة الخارجية الأميركية والفلسفة المهيمنة عليها، إقالة بولتون تعني مزيدا من هيمنة توجهات ترامب على تلك السياسة، وفي مقدمها رفضه التدخل العسكري، ومحاولة خفض تكاليف السياسة الخارجية الأميركية، خصوصا من خلال مطالبة حلفاء أميركا بلعب دور أكبر، وتحمل مزيد من التكاليف، وكذلك سعيه إلى التفاوض مع خصومه، كزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وحركة طالبان، والرئيس الإيراني حسن روحاني.
ثانيا، فيما يتعلق بمؤسسات صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، تعمّق إقالة بولتون الفراغ المؤسسي الذي تعيشه السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب، فبولتون هو ثالث مستشار للأمن القومي الأميركي لترامب، والذي لم يكمل عامه الثالث في الحكم. وقد سبق إقالة بولتون رحيل وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، بسبب تهميش ترامب لهما. حيث اشتكى تيلرسون من أن جايرد كوشنر، صهر ترامب، كان يلتقي قادة ومسؤولين أجانب في واشنطن من دون علمه. أما ماتيس فقد استقال بعد أن أعلن ترامب سحب قواته من سورية من دون إبلاغه، وهو قرار تراجع عنه بعد تعيينه بولتون مستشارا للأمن القومي. ولم يعد يتبقى في فريق السياسة الخارجية الأميركية الحالي شخصيات رئيسية، سوى وزير الخارجية بومبيو، والذي يشتهر بعدم معارضته ترامب، وسعيه إلى تنفيذ سياسته، على الرغم من تناقضاتها. حيث يرفع بومبيو من سقف خطابه السياسي ضد إيران في وقت يدعم فيه استعداد ترامب للقاء قادة إيران، والتفاوض معهم بلا قيد أو شرط.
وهذا يعني أن ترامب لن يجد من يعارضه أو يقدم له وجهات نظر مختلفة، فوظيفة مستشار 
الأمن القومي الأميركي تتلخص في التنسيق بين مؤسسات الأمن القومي والسياسة الخارجية المختلفة، وعرض نصائحها على الرئيس. وهي مهمة سعى مستشار الأمن القومي السابق، روبرت ماكمستر، للقيام بها بأمانة. ولكن ترامب فصله، لأنه لم يمتلك الصبر على سماع نصائحه. أما بولتون فلم يهتم كثيرا بلعب دور الوسيط بين مؤسسات الأمن القومي الأميركي، وركز بالأساس على ترويج رؤاه الخاصة للسياسة الخارجية الأميركية، ولمّا تعارضت مع ترامب فصله. وهو ما كان ترامب قد فعله مع ماتيس وتيلرسون، وكأنه يبحث عن مجرّد منفذين لسياساته، وهو الشرط الذي يجب أن يتحقق في مستشاريه الجدد.
ثالثا، فيما يتعلق بقدرته على إدارة السياسة الخارجية في الوقت الحالي، يعاني ترامب بشدة من أسلوبه في إدارة السياسة الخارجية الأميركية، والذي يشبه أسلوب إدارة مشروع عائلي، يهدف إلى الربح السريع أكثر من أسلوب إدارة سياسة خارجية معقدة لدولةٍ عظمى، تواجه منافسين كبارا وقضايا معقدة. حيث يؤمن ترامب بقدرته على عقد صفقات غير مسبوقة مع خصومه، من خلال ممارسة ضغوط ضخمة وصاخبة عليهم، والسعي إلى التفاوض معهم في الوقت نفسه خلال فترة زمنية قصيرة. ويروّج نفسه داخليا وانتخابيا رجل الصفقات الكبرى. ولذا يقع تحت ضغط سياسي ذاتي مستمر، للوصول إلى تلك الصفقات، خصوصا مع اقتراب نهاية ولايته الرئاسية الأولى، وحاجته لانتصار سياسي يروّجه في الانتخابات. وهو ما قد يضعه تحت ضغوط كبيرة للتوصل إلى اتفاقات في الملفات المفتوحة، كإيران، وأفغانستان، وكوريا الشمالية، والعلاقة التجارية مع الصين، وذلك وسط خشية من أن تدفع تلك الضغوط ترامب إلى تقديم تنازلات كبيرة لخصومه، من أجل التوصل إلى صفقات يسعى إلى ترويجها داخليا بوصفها إنجازات كبرى.
رابعا، فيما يتعلق بحلفاء أميركا، هيمنة ترامب على السياسة الخارجية، والفراغ المؤسسي الذي يحكم من خلاله، وأسلوب صناعة القرار الذي يتبنّاها، أسباب قد تضع حلفاءه في مواقف لا يحسدون عليها، فترامب الانعزالي المشغول بإعادة انتخابه سوف يطالب حلفاءه بتحمل مزيد من تكاليف السياسة الخارجية والأمنية الأميركية، وقد لا ينشغل بمصالحهم في أي صفقاتٍ قد يعقدها. حيث يخشى اليابانيون مثلا من أن يتسرّع ترامب في عقد اتفاق مع زعيم كوريا الشمالية، لا يتضمن نزعا شاملا لسلاح كوريا الشمالية النووي وصواريخها قصيرة ومتوسطة المدى، ما سيضع اليابان في وضع صعب، عشية التوصل إلى مثل هذا الاتفاق. وقد تجد دول الخليج نفسها في موضع مشابه، لو تسرع ترامب في عقد صفقة ما مع إيران، قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولعل هذا ما يبرّر التغير الطارئ على سياسة الإمارات تجاه إيران أخيرا، وإن كانت احتمالات الوصول إلى مثل هذه الصفقة ضعيفة.