غاري ريموند... مدينة خاوية ويتامى ذهبيون

غاري ريموند... مدينة خاوية ويتامى ذهبيون

02 يوليو 2020
غاري ريموند
+ الخط -

حين تقع بين يديك رواية لكاتب من مقاطعة ويلز البريطانية مترجمة إلى العربية تحت عنوان "المدينة الخاوية" (العربي للنشر والتوزيع، 2020 بترجمة سيّد عمر)، تتذكّر فوراً أشهرَ شخصية من ويلز عرفَتها الثقافة العربية على يد مترجِمين عرب في النصف الثاني من القرن العشرين؛ شخصية الشاعر ديلان توماس المتميّز بطريقة إلقائه لقصائده بصوت مثير للعاطفة (1914 - 1953)، فيدفعك الفضول إلى دخول أجواء هذه الرواية آملاً أن تُعمّق معرفتك بأدب هذه المنطقة البريطانية المختلفة تقريباً عن كل ما هو بريطاني تقليدي، شأنها في ذلك شأن اسكتلندا وأيرلندا المنتزعتَين من تراثهما الخاص، واللغة في المقام الأول، والمقذوفتَين قسراً في تراث مختلف.

غاري ريموند، كاتب هذه الرواية التي صدرت في الأصل تحت عنوان "اليتامى الذهبيون" (2018)، لا يترك مجالاً للشكّ منذ البداية في أنه يكتب ما يُدعى في الأدبي الغربي "رواية إثارة وتشويق"، أي ذلك النوع الذي نشاهد مسافراً في مطار مستغرقاً في قراءته في انتظار موعد إقلاع طائرته. وأتذكّر أن أوّل عربي تناول هذا النوع الأدبي بالنقد كان الروائي غالب هلسا (1932 - 1989) في محاضرة له في قطر خلال أسبوع ثقافي فلسطيني هناك في فبراير 1982.

وقبل أن نذكر بعضاً من علامات ووسائل الإثارة والتشويق في رواية "اليتامى الذهبيّون" التي انقلب عنوانها - بلا سبب إلى "المدينة الخاوية"، وليس حتى "المهجورة" كما ورد في الأصل كوصف لمدينة "فماغوستا" القبرصية، يحسُن بنا أن نُلمَّ بخطّها الرئيسي، مع ملاحظة شيء من عدم الدقة في الترجمة بشكل عام.

راوي القصة الذي لا يُشار إلى اسمه أبداً، فنّان عاش فترةً أطولَ ممّا رغب، لم يبع لوحة من لوحاته طيلة أربع سنوات، تُثقله الديون، وفي خصام دائم مع صديقته "كلير". ولهذا حين علم بوفاة أستاذه في قبرص، فرانسيس بينثم، اتّخذها ذريعةً ليسافر لحضور الجنازة. بينثم هذا كان الابن المزعج لعالم الفن حين عرفه الراوي لأوّل مرّة، ولكنه ارتحل إلى الخارج واختفى تقريباً بعد تقاعده.

وبوصوله إلى قبرص، فوجئ بأنه هو والقسّيس الوحيدان الحاضران في الجنازة، ولكن بعد قليل تقترب سيارة فاخرة تهبط منها فتاتان ورجل عجوز وآخر في الأربعينيات من عمره، هما على التوالي، إيفيجيني وبروستاكوف الذي سيُعرف باسم "إيلي". في البداية لا يجد الراوي مكاناً له في هذا الوسط، وسرعان ما نعلم أن إيلي رجل روسي ثري يعيش في قصر منعزل مع الآخرين الذين شاهدهم معه، ويتساءل الراوي إن كان هذا الثري رجل مافيا أو مسؤولاً في حكم أقلية متسلّطة.

بروستاكوف هذا كان يستخدم الفنّان الراحل ليرسم "أحلامه"، أو بالأصح ليرسم حلماً وحيداً يستحوذ عليه يحتوي على مشهد ليلي غامض في منتصفه أرجوحة حمراء. ويعتقد هذا الثري أنه إذا أمكن تجسيد الحلم في لوحة مرسومة كما هو كاملاً، فسيتبيّن معناه. ونعرف في سياق السرد أنه هو من دعا الراوي الفنّان لحضور الجنازة وفي نيّته جعله يحل محل بنثيم. وأمام إغراء المال وإمكانية تسديد ديونه، يقبل الراوي المعروضَ عليه ويتولّى شؤون المرسم المُقام في ما يشبه منارة على شاطئ بحر. وهناك يحاول رسم الحلم الذي يراه بروستاكوف؛ الليل الغامض بألوان يصفها له وأرجوحة باللون الأحمر الثقيل مَرّةً بعد مرّة.

ومع تكاثر تنقّلات وتساؤلات الراوي، التي يحاول بها كشف سرّ هوس هذا الثري برسم أحلامه، تتعقّد الحبكة ويصبح السر بعيد المنال كلما نقّب أكثر. ويظهر أن أحد مفاتيح السر هو أسطورة الثلاثين يتيماً ذهبياً، أولئك الأطفال الذين كانوا يتامى حين غزا الأتراك جزيرة قبرص في عام 1974. وهناك سرّ يحيط بهم أيضاً؛ إذا يُعتقد أن عددهم أكبر، وبعض من نجا منهم يعيش حياة متوحّشة في مدينة "فماغوستا" المهجورة منذ الغزو التركي (هكذا في الرواية وليس على أرض الواقع). وتتكشّف الخيوط واحداً بعد الآخر، فنعرف أن الثريَّ الروسي يأمل حين يتحقّق رسم حلمه كما هو في العثور على ابن له هو أحد هؤلاء اليتامى الذهبيّين كان قد تركه في المستشفى بعد ولادته وغادر حين حدث الغزو التركي. ونعرف أن هناك من يطارد الفتاتين اللتين تعيشان معه بحجة أنهما وارثتان لثروة طائلة، وهو يقوم بحمايتهما.

وتأتي النهاية حين يشارك الراوي في عملية تهريب الفتاتين عبر نفق إلى فماغوستا، بصحبة يفيجيني وسائق الثري، وهناك يُقتَل مطاردهما الشرّير "ستيلي" الشبيه بالسحلية، وتظهر عصابة خماسية تحمي الفتاتين. وبالعودة إلى قصر الثرّي يكشف له الراوي عن أن ابنه هو صاحب فندق يوناني يعيش في قبرص، ويأخذ هذا ليلتقي بأبيه وسط غابة محيطة بقصره.

من ميزات هذا النوع الأدبي أن كاتبه يبدأ منذ البداية بنثر علامات تستثير حب استطلاع وتشوّق القارئ؛ غموض متعمّد أو إيهام بالغموض يتواصل نثره على امتداد الصفحات، بعضه مفتعل وغير منطقي وفق السياق، وبعضه مبرّر إلى حد ما. في هذه الرواية تتوالى مثل هذه العلامات وغيرها الكثير. مثلاً، يقول الراوي: "لديّ أسئلة... ولكن في الوقت نفسه أشعر أنّني لست آمناً كلياً هنا"، أو "عند هذه النقطة بدأ كل شيء يتّضح لي، على الرغم من أنني ما زلت لا أعرف أين يكمن الخطر الحقيقي.. لقد تمّ استدراجي إلى هنا، وقد استدرجني رجل ميت"، أو "دخلت عالم العجائب في عزبة بروستاكوف. لم يكن أي شيء كما يبدو، وكل جزء من التعليمات يحتوي في داخله على لغز. لم أكن أعرف من هو بروستاكوف حتى الآن.. كان المكان الذي يعيش فيه كالحلم المنعزل؛ لم يكن مثالياً لكنه كان مملكة غير ثابتة تتغيّر الحقيقة فيها طوال الوقت".

وحول هذه العلامة الأخيرة سيكون من نافل القول الإشارة إلى أنها تستعير استعارة شبه حرفية وصف عالم رواية "آليس في بلاد العجائب"، ولكن من دون أن تصل إلى مستوى عالمها على الرغم من كل الإثارات الواردة في موقعها، الصحيح منها والمقحم على حد سواء. صحيح أن هاهنا إثارة وتشويقاً يعتبران عنصرين مطلوبين في أي سرد روائي، ولكن ما يقدمه هذا الروائي من مقاطعة ويلز يراوح في منطقة الإثارة التي يقرأها ويستمتع بها مسافر في مطار، ثم يتركها على طاولة مقهى أو يضعها في حقيبته وينطلق ليلحق بطائرته.

المساهمون