عن نظرية المؤامرة القديمة وأنصارها الجدد!

عن نظرية المؤامرة القديمة وأنصارها الجدد!

13 أكتوبر 2019
+ الخط -

أشياء كثيرة يمكن قولها عن الأحداث المتسارعة والملتهبة التي جرت في مصر طيلة الأسابيع الماضية، أهمها في ظني أن كثيراً من المصريين ثبت أن اعتقادهم بأهمية أجهزة الدولة وقوتها أكبر مما نظن ومما كانوا يظنون، لدرجة أنهم يدركون ـ وإن لم يعلن بعضهم ذلك الإدراك ـ أن أي تغيير للوضع القائم في مصر لن يتم إلا بمباركة أجهزة الدولة أو بعض المتنفذين فيها، أما كل ذلك الكلام عن إرادة الشعب وقوته وزحفه الهادر، فهو مجرد كلام إنشائي لم يعد له مكان، إلا حين يخرج الشعب بالفعل إلى الشوارع، فعندها فقط سيتذكر الجميع أهميته وعظمته وقدرته على التغيير.



هي القصة القديمة ذاتها لا تزال ماثلة في الأذهان، خاصة بعد أن تجددت فصولها في السودان: في ظل غياب حياة سياسية "سليمة" ومجال مفتوح وأحزاب نشطة ونقابات قوية واتحادات قادرة على الضغط بشكل سلمي، ستصل الأمور حتماً ويوماً ما إلى نقطة الانفجار التي ربما ينتج عنها خروج الشعب إلى الشوارع، وخروجه بأعداد غفيرة لا يمكن احتواءها أو قمعها بسهولة، سيمكنه من فرض الأمر الواقع على السلطة، وسيجعل اصطدام الجيش به صعباً، وسيجبره على التضحية بأكثر الوجوه المكروهة في السلطة إرضاءً للشعب، سيشكر الشعب الجيش لأنه حماه من الاصطدام بآلة السلطة الأعنف القادرة على قتل أعداد أكبر مما قتلته قوات الشرطة، وسيعتبر الجيش أن ما فعله كان إنقاذاً لثورة الشعب وحماية لها، وأنه يستحق من أجل ذلك ما هو أكثر من الشكر والتقدير، يستحق في أقل تقدير الحفاظ على امتيازاته الخاصة التي تبعده عن المحاسبة، سيرضى أغلب المدنيين بذلك رغبة في التقاط الأنفاس، ورهاناً على فتح المجال العام بشكل يساعدهم على تنظيم الصفوف والضغط من أجل نيل المزيد من الحقوق، سيرفض البعض إما لأنهم حالمون بحل نهائي وحاسم، أو لأنهم مسكونون بالنزق المغوي، أو لأنهم مدفوعون لتخريب المشهد، وسيتوقف حسم الأمور على قدرة الطرف المدني الأكبر عدداً والأكثر تنظيماً، على الوصول إلى حلول وسط مع الجيش بشكل يقنع أغلب الجماهير بدعمه حين يطلب المساندة.

لكن كل ذلك لن يبدأ إلا بعد نزول الجماهير إلى الشوارع، والجماهير لن تنزل إلا في حالتين: الأولى حين تتدهور الأوضاع إلى حد يجعل بقاءها في البيوت مساوياً لنزولها إلى الشارع، وعندها يا روح ما بعدك روح، والثانية حين تشعر أن نزولها إلى الشوارع يمكن أن يشجع طرفاً داخل السلطة على الانحياز له، والإطاحة برأس السلطة الذي يتحول مع ضغط القمع إلى كبش فداء سهل، تحتاجه الجماهير لكي تشعر بالتغيير، وتحتاجه أجهزة السلطة الساخطة عليه لكي تفتدي نفسها برأسه، وهو ما يتوقف في المقام الأول على جسامة الحماقات التي يرتكبها رأس السلطة بحق الأجهزة التي تشاركه حكمه وتؤمن نفوذه، ويتوقف في المقام الثاني على إدراك الأجهزة الراغبة في التضحية به لقدرتها على فرملة مطالب الجماهير المحتجة، لكي تقف عند حد معين، ولا تتمادى فتطلب الإطاحة برؤوس أخرى، والأخطر بمصالح وامتيازات هي الأبقى والأهم.
في ظل وضع تعيس كهذا لم تصل إليه مصر بين يوم وليلة، بل وصلت إليه عبر عشرات السنين التي تم فيها تخريب الحياة المدنية وإفسادها، تصبح نظرية المؤامرة هي الأكثر استخداماً في تفسير كل ما يجري على الساحة السياسية، ويشعر المواطن أن وراء كل تحرك سياسي عفريت مستتر، يمكن أن يركبه إذا انضم إلى ذلك التحرك، ويبدأ في التساؤل عن جدوى الاشتراك في فعل سياسي سيقطف غيره ثماره، لتسفر أحلامه بالعالم السعيد عن مجيئ قيصر جديد بدل القيصر القديم، طبقاً للتعبير الأشهر والأشد كآبة للشاعر الكبير أمل دنقل.
لذلك لم يكن غريباً أن يستخدم كثير من الذين شاركوا في ثورة يناير 2011 نظرية المؤامرة في توصيف ما جرى منذ ظهور فيديوهات المقاول والممثل محمد علي، معتبرين أن كل تحركاته مرتبطة بأجهزة سيادية ترغب في الإطاحة بالسيسي، مع أنهم حين خرجوا إلى الشوارع أول مرة، تم اتهامهم بأنهم جزء من مؤامرة إقليمية ودولية تهدف لزعزعة استقرار مصر لمصلحة جهات أجنبية، تختلف طبقاً لهوى كل شخص ومعتقداته، لكن ثوار يناير المتشككين في ما يجري اليوم، ليسوا مشغولين بالتفسير الخارجي، بل مشغولين بالتفسير المرتبط بالداخل وتناقضاته والمصالح المرتبطة به، وهم ليسوا محقين في ذلك، لكنهم معذورون فيه، لأن الإنسان محكوم بتجاربه ودروسها، أكثر مما هو محكوم بالأمل ووعوده.
نخطئ حين نتصور أن هذا الطلب المذهل على نظرية المؤامرة جاء بين يوم وليلة، فالحقيقة أنه بدأ يتشكل منذ عام 2012، حين أدت تطورات التحالف بين الإخوان والمؤسسة العسكرية إلى تهميش كثير من المشاركين في الثورة والرافضين لكل من الإخوان والعسكر، وحين خرج هؤلاء من المشهد كفاعلين حقيقيين، استسهلوا تصوير كل ما جرى في 2011 وما بعدها كمؤامرة قام بها الجيش مع الإخوان، وحين تم ضرب الإخوان في 2013 أوغل هؤلاء في تصوير الأمر أنه كان مؤامرة محكمة استُخدم فيها الإخوان، مثلما استُخدم غيرهم، وكان هذا الاعتقاد أسهل من مواجهة النفس بالأخطاء التي ارتكبها هؤلاء، وبالأخص الزاعقين والمزايدين منهم ـ مع افتراض حسن نواياهم طبعاً ـ ومساهمتهم الفعالة في تنفير الناس من أي حلول سياسية.
ولعلك لو تأملت مواقف هؤلاء بالتحديد طيلة الفترة الماضية ستجدهم أكثر من تبنى نظرية المؤامرة، وستجد أنهم قد وصلوا إلى أبعد مدى في هوس اتهام أي مختلف معهم في الرأي بأنه "أمنجي" وعميل للأجهزة، دون الانشغال بتقديم أدلة أو التأمل في مجمل المواقف والانحيازات لذلك الشخص قبل الحكم عليه، لأن من الأسهل لهؤلاء أن يؤكدوا أسطورية قوة الأجهزة الأمنية، ويستخدموها ذريعة لتفسير أي إخفاق أو فشل، فبدون تلك "الأسطرة والأفورة" ربما حاسبهم بعض المفتونين بهم على مواقفهم الزاعقة والمزايدة والمخوّنة التي ثبت أنها لم تكن مرتبطة بأي خطة أو تصور، بل كانت مجرد هبهبة غضب وشبّورة تخوين والسلام.
لاحظ أن نفس هذا الموقف تكرر مع أعضاء وأنصار جماعة الإخوان بعد الإطاحة بحكمهم، حيث استسهلوا تصوير كل ما حدث لهم خلال سنة حكمهم بوصفه مؤامرة محكمة شاركت فيها أجهزة إقليمية ودولية، لأن ذلك كان أفضل وأسهل من مواجهة أنفسهم بحقيقة أخطاء كثيرة تم ارتكابها من 2011 وما تلاها، ومن تذكرهم لذلك الكم المهول من النصائح السياسية الداعية للتهدئة وعدم التصعيد، والتي تلقوها من الكل، بما فيهم بعض معارضيهم، والشهادات في هذا الصدد أكثر من الهم على القلب، وبعضها أقرت به قيادات إخوانية وهوجمت بسببه، لكن لماذا تلجأ الجماعة إلى مواجهة نفسها بالحقيقة المرة بشكل ربما يهز ثقة من تبقى من القواعد بمن تبقى من القادة خارج السجن؟ لذلك كان من الأسهل على قياداتها وأصواتها الإعلامية اللجوء إلى نظرية المؤامرة، حتى لو وصل الأمر إلى تبني سكة أن السيسي أمه يهودية، لأن قدرة مثل تلك الخرافات على الانتشار بين الأنصار والمؤيدين أسرع، وقدرتها على إراحة النفس أعلى، بدلاً من مواجهة النفس بحقيقة مخيفة التبعات وهي أن السيسي ليس مجرد شخص بل هو ممثل لتحالف مصالح يضم كبار قادة الجيش والشرطة وكبار رجال القضاء.
بالتأكيد، رفض نظرية المؤامرة واستبعادها بالكامل حماقة، لأنه ينفي وجود مؤسسات وأجهزة لها مصالح، وتأمين مصالحها يستدعي التخطيط والتآمر، لكن الحماقة الأكثر جسامة هو أن نساهم في تحويل المؤسسات والأجهزة إلى قوى خارقة وأسطورية، مع أنها في الآخر نبت للواقع بكل مشاكله، وحتى في الدول الأكثر تقدماً وتعقيداً التي تمتلك أجهزة أمنية عظمى، قامت تلك الأجهزة ـ وتقوم ـ بارتكاب أخطاء بشرية تؤدي لنتائج كارثية، ووجدت من ينشق عليها لأن ضميره لم يسمح له بالاستمرار في ممارسة المهام الموكلة إليه، وفي كل مرة كانت تلك الأحداث تجد من يفسرها بشكل تآمري، حدث ذلك بعد 11 سبتمبر وحدث بعد هروب إدوارد سنودن ويحدث ذلك الآن من جديد في أروقة البيت الأبيض، وفي كل مرة يثبت الواقع أن أي مؤامرة لا يمكن أن تنشأ من العدم، وأن المتآمر يمكن أن يستثمر أحداثاً نشأت في الواقع بفعل تعقيداته ولخبطاته، وبدونها لم يكن يمكن له أن يتآمر من الأساس.
في اعتقادي، يزيد تصديق الإنسان لنظرية المؤامرة حين يكون خارج المشهد، مُبعداً عن معلوماته أو بعيداً عن تفاصيله، وحين يكون الإنسان فيما مضى فاعلاً في المشهد، ويتم إبعاده عنه، يكون من الصعب عليه الإقرار بأنه خرج من المشهد أو تم إخراجه منه، لذلك تصبح نظرية المؤامرة حلاً سهلاً، وتصبح في الوقت نفسه نتيجة لنقص المعلومات الفادح، ومهرباً سهلاً من مواجهة تعقيدات الواقع، خصوصاً حين يكون الإنسان نفسه قد دفع ثمناً كبيراً من قبل باشتراكه في محاولة تغيير ذلك الواقع المعقد، ورأى بنفسه أن التغيير لا يحدث بالنوايا الحسنة والشعارات النبيلة، ولذلك يجد أن من الأسهل له أن يفسّر بالدهاء ما لا يمكن تفسيره بالغباء، ليثبت ذلك أن الناس في الغالب الأعم يفضلون ما يأنسون إليه، أكثر من تفضيلهم لما يمكن أن يزعج سلامهم ويعكر صفوهم، حتى لو كان ذلك في الماضي القريب سبباً لسخريتهم من آبائهم وأجدادهم، لأنهم آنسوا إليه بدورهم.
لذلك ولذلك كله، وجدت أناساً أفاضل ومخلصين، سبق لهم أن دفعوا ثمناً غالياً لاستخدام نظرية المؤامرة في تفسير أفعالهم وانحيازاتهم، يستخدمونها ولو بشكل مخفف في تفسير ما جرى خلال الأسابيع الماضية، دون حتى أن يحاولوا جمع معلومات أكثر، أو يقرروا التريث في إصدار الأحكام، ولذلك تورطوا في ترويج نظريات تفيد أن ما يجري كان مرتبطاً بصراع أجنحة، وحين ثبت عدم صحة ذلك، وأثبتت السلطة تماسكها القمعي وقدرتها على ضرب أي معارضة لها، لم يتذكر هؤلاء ترويجهم لنظريات المؤامرة، بل انتقلوا إلى النغمة المفضلة السابقة التي تلعن الزمن والدهر والدنيا والشعب والظروف، وتشكو من الإحساس بالهزيمة، دون أن تقوم بتعريف طبيعة المعركة، لكي نستطيع بناءً على هذا التعريف تحديد شكل الهزيمة الذي ينبغي بعده الاستسلام، وشكل الهزيمة الذي يتوجب بعده الاستمرار في المقاومة.
لكن، هل يمكن أن ينتقد الإنسان من يصدرون الأحكام القاطعة دون دراسة ومعلومات، ثم يصدر هو الآخر حكماً قاطعاً بعدم وجود أي نوع من صراع الأجهزة ارتبط بما يجري في مصر؟ بالطبع لا، فمن يدري، ربما أثبتت الأيام القادمة أن ما قام به محمد علي لم يكن مجرد فعل فردي عشوائي، كغيره من الأفعال الفردية العشوائية التي شهدتها مصر وغيرها، لكن ذلك لن ينفي حقيقة أهم هي أن ما دفع نظام السيسي للتراجع لأول مرة منذ لحظة التفويض، لم يكن فيديوهات محمد علي، بل كان الغضبة الشعبية المحدودة التي ارتبطت به، لأنها كشفت للنظام عن غضب أشد وأقسى يمكن أن ينفجر في أي لحظة، وهو ما لم يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك مواطنون محترمون وشجعان قرروا أن يضحوا بأنفسهم وحريتهم من أجل حياة أفضل لهم ولبلادهم، مواطنون خنقهم إحساس المهانة والقهر من طريقة حكم السيسي لمصر، فقرروا أن يطالبوا بالتغيير، حتى لو دعا له أحد ليس على مستوى آمالهم، وما قام به هؤلاء الشجعان، استفاد منه الجميع، وعلى رأسهم من اتهموهم بالحمق والتهور، ومن صوروهم كعرائس ماريونيت تحركها نظرية مؤامرة تخطط لها بعض الأجنحة التي لم نر لها أمارة حتى الآن.
ما ينبغي أن يقوله شخص مثلي قضت عليه الظروف أن يقيم خارج مصر، ولا يملك أن يدعو إلى تحرك في الشارع، لن يشارك في دفع ثمنه، هو أن يتوجه بكل التحية والتقدير والمحبة إلى كل من قرر أن يضحي طيلة الأسابيع الماضية بأمانه وحريته من أجل معنى أكبر، فحقق في أيام معدودة ما كنا نتصور أنه لن يحدث إلا بعد سنين، وأعاد كلمة الشارع إلى الوجود من جديد، بعد أن توهمت السلطة قدرتها على قتلها إلى الأبد، ثم بعد ذلك لا يملك إلا أن يدعو نفسه إلى أن تتذكر دائماً قدرة الحياة على التجاوز، وقدرتها على فرم من يقف أمام متغيراتها، أو تجاوزه في أحسن الأحوال، وهو ما يجعل أناساً ملهمين ومشرقين، يتحولون إلى ظواهر مثيرة للشفقة، لأنهم خاصموا فضيلة التواضع أمام متغيرات الحياة، ثم يدعو الله إلى أن يرزقنا تلك الفضيلة دائماً وأبداً، فلا نهلل لمتغيرات الحياة دون فهم، ولا نهوّن منها دون حذر، محاولين فهمها ما استطعنا، وطالبين منها معاملتنا بالرأفة والحسنى.
والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.