عن أحمد الذي غرق مع أحلامه

عن أحمد الذي غرق مع أحلامه

30 ابريل 2015
ألقت البحرية التركية القبض عليهم.. فسلموا من الغرق (الأناضول)
+ الخط -

يوم حسم أحمد أمره، وقد سلّم بأنه لم يعد يرغب في العيش في بلد عربي يحرم أبناءه من حقوقهم الاجتماعية، اختار أوروبا وجهته. فركب أحد "قوارب الموت" شأنه شأن عشرات غيره من الباحثين عن مستقبل حسن وعن نجاح.. هؤلاء الذين يُعرَفون بالمهاجرين غير الشرعيين. لكن الحظ لم يحالف أحمد، فتحقق ما كان يخشاه. هو لا يتقن السباحة، فغرق في عرض البحر.

وأحمد (23 عاماً) فلسطيني رأى النور في مخيم العاقدين في حمص (شمال)، وترعرع في أحيائه البائسة. يخبر صديقه نضال، وهو، أيضاً، من اللاجئين الفلسطينيين في سورية الذين نزحوا أخيراً إلى لبنان: "كنا ثلاثة أصحاب لا نفترق. أردنا الهروب من الخدمة العسكرية (خدمة التحرير الفلسطيني) التي قد تمتد إلى سنة وتسعة أشهر. ففي هذه الخدمة لا نتلقى تدريبات عسكرية، بل نوزّع على حواجز على الطرقات السريعة، وقد نسقط ضحايا للمسرعين ونموت". يضيف أن "الخدمة العسكرية ليست السبب الوحيد الذي يدفع الشباب إلى الهجرة. ففقدان الأمل بالوطن والهوية العربية والخوف من الموت بسبب الحروب والظروف الاجتماعية القاهرة، هي السبب المباشر لهروبنا. جواز السفر السوري أو السوري الفلسطيني بات يخنقنا. المواطن السوري يموت مائة ميتة قبل الاستحصال على تأشيرة دخول إلى الأراضي التركية بسبب الظروف القاسية التي نعيشها".

وتفرّق الأصحاب. هرب نضال إلى لبنان، وسافر عباس إلى ألمانيا حيث بعض أقربائه. أما أحمد فبقي يحلم بالهجرة إلى أي بلد أوروبي ليتخلص من بؤس المخيم ويبدأ مرحلة جديدة في "بلاد المال".

ويشير نضال إلى أن "وضع أحمد المادي لم يكن يمسح له بتحمل تكاليف الهجرة. المهرّب عرض عليه وعلى شبان سوريين آخرين دفع خمسة آلاف دولار أميركي، فيحقق لهم ما يريدونه. وعدهم بحياة رغيدة وفرص عمل مؤمنة فوراً حين وصولهم. رسم لهم حياة كتلك التي يتمنونها في أذهانهم، وقال لهم ما رغبوا في سماعه". فاستدان أحمد مبلغاً من المال، لتحقيق حلمه.

ويروي نضال أن أحمد "كان من التلاميذ المتفوقين في الصف، ولا سيما في اللغة العربية. كان يتباهى أمام رفاقه بمهارة إعرابه الجمل. وكان طموحاً. أنهى المرحلة الثانوية بدرجة جيد جداً، من ثم قرر دراسة الأدب الفرنسي في خلال الأحداث السورية. لكنه لم يتمكن من متابعة دراسته بسبب ظروف عائلته الصعبة وحاجتها إلى مساعدته". تجدر الإشارة إلى أن لأحمد شقيقاً يعيش في الإمارات العربية المتحدة وست شقيقات يعشن مع والدَيه في حمص.

يكمل نضال سرده: "على الرغم من رفض أهله فكرة الهجرة، إلا أن أحمد حزم أمتعته وودّع عائلته وخرج من حمص إلى حماه بطريقة غير شرعية. وذلك خوفاً من اصطياده من عناصر تنظيم داعش أو جبهة النصرة أو مسلحين آخرين من جهة، أو من القبض عليه من عناصر الجيش السوري من جهة أخرى فيسألونه عن خدمة العلم ويسجن".

اجتاز أحمد الحواجز بنجاح ووصل إلى الحدود التركية. معظم الهاربين من حمص يقصدون مرسين (جنوب تركيا) التي تعدّ بوابة العبور إلى أوروبا. ويوضح نضال أن "ثمة طريقَين للهجرة انطلاقاً من تركيا، إما عبر اليونان باتجاه ألمانيا أو من مرسين مباشرة إلى إيطاليا". لكن الطريق الثاني غير مرغوب فيه من أصحاب "قوارب الموت" بسبب التدقيق على السفن الخارجة من تركيا باتجاه إيطاليا. فالسلطات أصدرت قراراً يقضي بمنعها من العبور قبل تفتيشها، على أن يمنع من المغادرة كل من يعثر عليه من دون مستندات قانونية على متنها، تحسباً للهجرة غير الشرعية.

ويتابع نضال أنه "عند وصول أحمد إلى تركيا، استأجر بيتاً صغيراً مع ستين شاباً آخرين من جنسيات مختلفة في انتظار أن يبلغهم مسؤول العملية عن توفّر إحدى السفن. وقبل مغادرته، أخبرني أحمد أنه خائف جداً وطلب مني أن أصلي لأجل خلاصه". أما آخر ما كتبه قبل وفاته فكان: "ربّي إنني في أشد الحاجة إليك، فلا تتركني كما تركوني".

وفي خلال تواصله معه في ساعات حياته الأخيرة، أخبر أحمد نضال أنه على متن القارب 80 شخصاً. لكن الأخير يلفت إلى أن "ما من أرقام محددة للذين قضوا بعد حادثة الاصطدام، وما من أخبار موثقة حول ناجين. لكن المؤكد أن أحمد من بين المتوفين لعدم تمكنه من السباحة. هي الرياضة التي كرهها طوال عمره القصير".

وبحزن يقول نضال "عدد كبير منا يتمنى التخلص من وثيقة سفر لاجئ، ويطمح إلى الحصول على جواز سفر أوروبي يتيح له التحرك بلا قيود ويمنحه الكرامة والحرية. بعضنا تحقق حلمه وبعضنا غرق في قعر البحر وأغرق أحلامه معه وخلّف حزناً في قلوب محبيه، مثل أحمد".