عندما يحدّثونك في العراق عن انتخابات مبكّرة

عندما يحدّثونك في العراق عن انتخابات مبكّرة

31 اغسطس 2020
+ الخط -

منذ عودته من واشنطن، وتوقيع اتفاقيات فيها، لم ينفكّ رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، عن الحديث عن الانتخابات النيابية المبكرة، وعن استعدادات حكومته لإنجاحها، إلى درجة أصبحت كلمة الانتخابات الخاتمة لكل حديث يدلي به، أو لقاء يحضره أو زيارة يقوم بها. ويبدو أن الكاظمي قد وجد ضالّته في هذه الحيلة، لمداراة عجزه وفشله، في تحقيق أي من وعوده الوردية، خصوصا في ما يتعلق بالحد من النفوذ الإيراني، وإنهاء دور المليشيات، وحصر سلاحها بيد الدولة، أو توفير الخدمات أو تحقيق الأمن والاستقرار. زد على ذلك تراجعه بفتح ملفات الفساد وتقديم الفاسدين إلى المحاكم، وإلغاء المحاصصة الطائفية وتقديم حلول للأزمة الاقتصادية. أما وعده القاطع تقديم قتلة الثوار للعدالة، فلم ينبس تجاهه ببنت شفة، بل عاد الطرف الثالث، وهم المليشيات المسلحة الموالية لإيران، لممارسة هوايتهم بقتل الثوار في مدن عراقية عديدة. في حين ظهرت هزالة موقفه ضد التدخلات الإقليمية بشكل مخجل ومعيب، فإذا كان أسلافه قد قبلوا بالخضوع للأجندات الإيرانية بالسر، أو تحت الطاولة، كما يقال، فإن مصطفى الكاظمي قبلها في وضح النهار.
ليس الكاظمي وحده الذي وجد ضالته في حيلة الانتخابات المبكرة للخروج من مأزقه، وإنما رقصوا لها كلهم في العملية السياسية، على أمل استعادة مكانتهم وقوتهم التي فقدوها بعد ثورة تشرين التي كادت تطيحهم لولا انتشار وباء كورونا الذي فرض على الثوار وقف الزحف الثوري، حرصا على حياة العراقيين التي قامت الثورة من أجلهم، فسارع أولئك إلى إعلان تأييدهم هذه الحيلة، ليقولوا للثوار نحن معكم نستجيب لمطالبكم، ونعمل على ترجمتها بأسرع ما يمكن. ولم يقف رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، متفرّجا، فقد أصدر بيانا يدعم خطوة الكاظمي، ويدعو إلى "عقد جلسة طارئة علنية ومفتوحة بمشاركة الرئاسات الثلاث والقوى السياسية لحل البرلمان وإجراء الانتخابات". ورحّب رئيس الجمهورية، برهم صالح، بهذا الإعلان، ووصفه بأنه "جاء التزاماً بما تعهد به البرنامج الحكومي". ولم تكن بعثة الأمم المتحدة في العراق بعيدة عما جرى، فوصفت قرار الكاظمي إجراء انتخابات مبكّرة بأنها استجابة لمطلب شعبي رئيسي، وأن البعثة مستعدّة لتقديم الدعم الكامل من اجل إجراء "انتخابات حرة ونزيهة". بعبارة أخرى، أصبح المرفوضون من الثورة في مقدمة المطالبين بالإصلاح في مشهد مثير للسخرية والاشمئزاز.

ليس الكاظمي وحده الذي وجد ضالته في حيلة الانتخابات المبكرة للخروج من مأزقه، وإنما رقص لها كلهم في العملية السياسية

لم يكن هؤلاء أغبياء في تأييدهم قرار الكاظمي، فإجراء الانتخابات المبكّرة في ظل تجاهل شروط الثوار الذين استهجنوا هذه الحيلة ستصب لصالحهم بكل تأكيد، إذ ما الذي يخشاه هؤلاء من هذه الانتخابات، إذا لم يتوفر قبلها كتابة قانون جديد للانتخابات وآخر للأحزاب يجرّم الأحزاب الطائفية والعنصرية والموالية للأجنبي، ومفوضية للانتخابات مستقلة ونزيهة، وتعيين لجنة قضائية مستقلة وإشراف دولي محايد. إضافة إلى منع أي شخصية شاركت في العملية السياسية منذ عام 2003، وساهمت في تدمير العراق دولة ومجتمعا. من دون ذلك سيحصد هؤلاء معظم مقاعد البرلمان بقوة المال والسلطة، إضافة إلى الدعم غير المحدود لهم من المرجعيات الدينية ذات التأثير الكبير في صفوف فئات واسعة من العراقيين، وخصوصا في المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وبالتالي، لا علاقة لهذه الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكّرة، وبهذه الطريقة، بأي مشروع إصلاحي يصب في خدمة العراق وأهله، وإنما تدخل في باب الالتفاف على مطالب الثوار، ليتمكّن هؤلاء من شخصيات وقوى وأحزاب وتيارات سياسية من استعادة مكانتهم وقوتهم، وما خسروه بعد ثورة تشرين.

وصفت بعثة الأمم المتحدة في العراق قرار الكاظمي إجراء انتخابات مبكّرة بأنها استجابة لمطلب شعبي رئيسي

أصل الحكاية يكمن في افتضاح جميع مبرّرات الولايات المتحدة لاحتلال العراق، ومنها كذبة أسلحة الدمار الشامل، أو علاقة الراحل صدام حسين بتفجيرات "11 سبتمبر"، الأمر الذي اضطر رئيس الولايات المتحدة آنذاك، جورج بوش الابن، إلى ترويج حملة إعلامية عملاقة مفادها أن أميركا ستبني نظاما ديمقراطيا في العراق، من خلال الانتخابات الحرة، وتصوير هذه الكذبة إنجازا سياسيا واجتماعيا متميّزا، ونقله نوعية فريدة على طريق إقامة مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية قاعدة لإقامة صرح العراق الجديد، ظناً منه إن ذلك سيقنع العراقيين، بغض النظر عن جريمة الاحتلال، والتخلي عن مقاومته، وقبول ما تُدعى "العملية السياسية"، لما للديمقراطية والانتخابات من تأثير سحري في نفوس العراقيين، لحرمانهم منها عقودا طويلة. لكن ما حدث أن بوش اصطدم بشعبٍ عريق، تمتد حضارته إلى آلاف السنين، وقادر على تمييز الديمقراطية التي يأتي بها المحتل والديمقراطية المنبثقة منه، خصوصا أن نتائج النظام الديمقراطي قد أفرزت فوز نوابٍ لا علاقة له بصناديق الاقتراع، ولا بأصوات الناخبين، وإنما حُددت نتائجه مسبقا على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، بحيث يكون منصب رئيس الوزراء للشيعة ورئيس البرلمان للسنة، في حين أصبح منصب رئيس الجمهورية من حصة الكرد. ناهيك عن الوسائل المكشوفة التي مارسها هؤلاء الذين نعتهم الثوار بالأشرار، قبيل اليوم الموعود لإجراء الانتخابات، ومنها، بذخ الأموال وشراء الذمم والفتاوى الدينية، إلى جانب التهديد والابتزاز ومحاربة الناس في لقمة عيشهم أو الفصل من الوظائف والأعمال وغيرها، إضافة إلى حجم التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات، حتى وصل الأمر إلى أن يتهم رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي، خصومه بالتزوير، ويطالب بإعادة فرز الأصوات بالطرق اليدوية. وفي الانتخابات الأخيرة، جرى حرق صناديق اقتراع، "على عينك يا تاجر"، كما يقول العراقيون.

سقوط حكومة عادل عبد المهدي لا يعني سقوط العملية السياسية، وحل البرلمان أو تعديل قانون الانتخابات ينطبق عليه الشيء نفسه

في المقابل، الانتخابات، بحد ذاتها، لا تدلّ وحدها على ديمقراطية النظام، على الرغم من أنها أهم أعمدة النظام الديمقراطي، فهناك الدستور والبرلمان والقضاء، أي أن الديمقراطية إطار جامع لكل هذه الأدوات، فأي تعديل أو تغيير في واحدة منها لا يسقط العملية السياسية، بل لا يضرّها، فسقوط حكومة عادل عبد المهدي، على سبيل المثال، لا يعني سقوط العملية السياسية، وحل البرلمان أو تعديل قانون الانتخابات ينطبق عليه الشيء نفسه. والأهم أنه لا يمكن لكائنٍ من كان أن ينسف واحدةً من هذه الأدوات، لا من داخلها ولا من خارجها، فكل واحدة منها محمية بهذه الطريقة أو تلك من جهة، وتحمي بعضها بعضا من جهة أخرى، خصوصا، وهذا هو الأهم، أن هذه العملية السياسية صممت أصلا بغرض تدمير العراق، وليس لتشكيل عملية سياسية لبناء العراق الجديد، كما يدّعي المحتل.
لا تقود هذه الحقيقة إلا إلى استنتاج واحد، إن الانتخابات التي يريدها الكاظمي، وبالتعديلات الجزئية على قانونها، أو مفوضيتها، لن تكون سوى نسخة مشوّهه للانتخابات التي سبقتها. وإذا حدث وتمخضت عن تغيرات أو إصلاحات محدودة، لذر الرماد في العيون، فإنها لن تغير من الأمر شيئا. فعلى سبيل المثال، تعديل قانون الانتخابات الذي وضعه الحاكم المدني للعراق، بول بريمر، بعد الاحتلال، في عام 2004، وسارت على أساسه الانتخابات جميعها، تعديلا جزئيا، لا ينتج عنه غير فوز هذه الكتل والطوائف الحاكمة والسرّاق. حيث ينص هذا القانون على توزيع جميع المقاعد في البرلمان على الكيانات السياسية من خلال نظام للتمثيل النسبي، ونظام الدوائر على عدد المحافظات، وتوزيع المناصب على أسس طائفية وعرقية محمية، من مواد عديدة في الدستور الذي تجنّب أولئك الحديث عن إلغائه أو تعديله.
على أرض الواقع، وبحسبة بسيطة، أو حسبة عرب كما يقال، أثبت هذا الواقع عدم جدوى هذه الانتخابات، فمن جهةٍ، النتائج المأساوية التي أفرزتها أربع تجارب انتخابية سابقة أكدت أن الانتخابات في العراق لم تجر من أجل بناء نظام ديمقراطي يخدم العراق وأهله كما يدّعون، وإنما من أجل توفير آلية سياسية ذات صفة ديمقراطية، وبقيادة الحرامية والمجرمين، كي تتمكن أميركا من خلالها حكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الحاكم العسكري جي غارنر، ثم الحاكم المدني بول بريمر. وإذا لم يكن الأمر كذلك، لكان علينا جميعا تصديق مقولة الأميركان، إنهم جاءوا إلى العراق محرّرين لا محتلين. هذه هي الحقيقة، وأي خلاف حولها يعدّ سذاجة سياسية، أو لتحقيق أهداف ذاتية أو فئوية ضيقة.
باختصار، الانتخابات القادمة، في ظل حكومة الكاظمي التي هي نتاج لعملية السياسية نفسها، لن تكون قطعا سوى نسخة طبق الأصل، من الانتخابات التي سبقتها، مهما جرى تزويقها، أو تجميلها بمساحيق العالم كله. والمشاركة فيها اعتراف بمشروعية العملية السياسية، وإعطاء الحق للوجوه التي ستفوز حتما، بمواصلة سرقة العراق وقتله وتجريفه، شعبا وهوية من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه عقودا طويلة، من جهة أخرى.

449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي