عرب أوروبا وتقدم اليمين.. الأوهام والواقع

عرب أوروبا وتقدم اليمين.. الأوهام والواقع

12 سبتمبر 2014

اليمين الأوروبي حين يكون عنصرياً (Getty)

+ الخط -
التحول اليميني في أوروبا، خصوصاً أنه متصاعد من دون تسليط الضوء عليه، أمر لا يمكن إخفاؤه أو إنكاره. ففي شوارعها يخرج هذا اليمين ليرفع شعارات تكسبه اجتماعياً، بمعارضة تخفيضات في الموازنات، تصيب الفئة الأكثر فقراً، وفي البرلمانات والبلديات يقف هؤلاء، بأحزاب يرتدي ممثلوها ربطات عنق أنيقة، رافعين شعارات وقف الهجرة، ولافتات تخيف من بناء مساجد ومن ضياع الهوية.

استطاع هذا اليمين، تاريخياً، دفع الأحزاب المحافظة التقليدية نحو تبني مواقفه في شعبوية واضحة معالمها في ألمانيا. فحزب "الوطني الديمقراطي الألماني"(أن بي دي) صار يحذر "من الهجرة لاستغلال النظام الاجتماعي"، ومثله يفعل حزب "الحرية الهولندي" الذي يحذر من "تسونامي إسلامي". القصة ليست فقط في الأزمات الاقتصادية، بل، أيضاً، في انحدار الشعارات والأيديولوجيات التي يجري توريثها من جيل إلى آخر.

ما أظهرته انتخابات البرلمان الأوروبي، في مايو/أيار الماضي، لم يكن سوى رأس جبل الجليد، ونتاج تراكمات طويلة في تاريخ التحول اليميني المتشدد. حتى عندما قتل سفاح النرويج، أندرس بريفيك، في جزيرة أتويا 69 شاباً وشابة في 22 يوليو/ تموز 2012 برره بأنه "يدافع عن النرويج بوجه الثقافة الماركسية والإسلام واستيراد المسلمين إلينا". استهدف معسكراً صيفياً لشبيبة للاشتراكيين الديمقراطيين وضيوفهم، ومبرره "الخوف من المسلمين على هوية وطنية". وبتبريراته تلك، صار بريفيك ملهماً ومرجعاً لحركات اليمين المتشدد في مظاهراتها وفعاليتها التي تتم "وفق قوانين حماية حرية التعبير"، بحضور أمني كثيف. وفي المقابل، يجري صراخ كبير في البرلمانات والإعلام عن "تطرف الآخرين وتشددهم".

أوروبا التي صارت أكثر انفتاحاً فيما بينها هي ذاتها التي اقتنص يمينها من انفتاحها البيني لمزيد من التخويف والفرز الاجتماعي، الأزمات الاقتصادية ليست دائماً الشماعة، ففي الخطاب المتطرف، ربما كما كان في سنوات مضت في منطقتنا خطاب تحميل "الآخر" مسؤولية كل تراجعاتنا، نجد مشكلات أوروبا آتية من "الآخر"، من " الرومانيين (الغجر)" و"المسلمين" و"اليهود" (على الرغم من أن أصحاب ربطات العنق يوغلون في كسب ود إسرائيل، تملقاً ونكاية).

يقوى اليمين المتطرف من اليونان جنوباً، مروراً بإيطاليا وفرنسا، وحتى يصل إلى السويد التي ستكون بعد أيام مع انتخابات عامة، هي الأولى بعيد الانتخابات الأوروبية في مايو/ أيار، وفيها تعطي الاستطلاعات 10% لحزب الديمقراطيين السويديين الذي كلما فاحت رائحة عنصريته، تقدم في صفوف ناخبين، مأزومين اجتماعياً وفكرياً.

في تيه هوية أوروبا التي يتفق عليها اليمين المتشدد، نقية عرقياً، بلا تعددية لا ثقافية ولا إثنية. تصبح هوية ملايين العرب الموجودين فيها واحدة من تحديات كثيرة، غير التي بالأصل تجري في بلادهم التي هجروها. وليس اليمين المتشدد في أوروبا أحزاباً في البرلمان فقط، تتحالف فيما بينها وعابرة للحدود، بل حركات وجماعات تضم نخباً من مجتمعاتها، معظمها يسمي نفسه "عصب دفاع وطني"، من بريطانيا حتى فنلندا التي لا يوجد فيها تحد للهوية، باعتبار المسلمين فيها أقلية بسيطة. وعلى الرغم من ذلك، تواجه تلك الأحزاب والجماعات عرباً ومهاجرين متشتتين أحياناً كثيرة، تفرقهم تبني الفرقة ذاتها في بلادنا، وهموم وتقوقع يصبح مع الوقت أحد أهم نقاط قوة هذا اليمين وتقدمه.

حقائق وأوهام متبادلة

أكثر ما يلاحظ في التعاطي مع صعود اليمين المتطرف واليمين "الليبرالي الجديد" في بعض المجتمعات الأوروبية، أن مهاجرين يتخذون موقفاً مبنياً على فهم شعبوي، يشبه خطاب التشدد اليميني الشعبوي. إقحام الدين، دفاعاً أو استسلاماً، في عزلة "هجرة داخل الهجرة"، ليصبح الناتج هذا اليمين الأوروبي لم يتأسس، تاريخياً، إلا ليكون "صليبياً عنصرياً".

في مجتمعات "الجاليات"، ثمة حالة أخرى، يتصدرها شباب وشابات من أصول مهاجرة، يتقنون اللغة وعقل المجتمع وثقافته، أقل تشنجاً وأكثر انفتاحاً، بلا هواجس "ضياع الثقافة"، ولا "ذوبان الدين". هؤلاء لا تعوزهم معرفة تفاصيل دقيقة، في مجتمعاتٍ، ولدوا وترعرعوا فيها، وإن اعتبر أحد "الخطباء" أن مهمته، في هجرته، تتركز على "تبيان مفاسد الهجرة ذاتها".

من يقرأ في الدنمارك، مثلاً، اسمي أحمد عكاري (تحول من الإمامة في المساجد إلى ناقد للإسلام السياسي) وناصر خضر (من برلماني إلى باحث في المجتمعات الإسلامية في معهد هدسون الأميركي)، يكتشف العلاقة المأزومة داخلياً بين مجتمعات الجاليات، وتحديداً المسلمة منها، وهي تتبنى، سنوات طويلة، البحث عن الإشكالي قاعدة عامةً، وليس استثناء. وفي صندوق بريد "المهاجرين" عادة ما ترمى أسباب توسع "اليمين المتشدد" وتمدده في الدول الأوروبية، ليس بالضرورة أن يكون مُلقي الأسباب متقصداً، لكنه ليس بالتأكيد فعلاً بريئاً.

قوانين ودساتير بلدان كثيرة، منها الإسكندنافية، تكفل لكل مهاجر، بعد سنوات قليلة، حقوق "المشاركة السياسية" في الانتخابات البلدية، ترشحاً وتصويتاً، عدا عن الحقوق الديمقراطية، منذ البداية، من لجان السكن ورياض الأطفال والمدارس. وبحسب "متخصصين جامعيين"، عرب وغير عرب، لم تكن القضية قلة معرفة، لتكون المشاركة واسعة، كما في الحالة التركية في الانتخابات الوطنية في بلدان الاغتراب، كما وزنها في انتخابات ألمانيا وغيرها، فذهنية التحريم سيطرت سنوات طويلة على "فتاوى" عدم المشاركة بين العرب. ذلك قبل أن ينشأ اعترافٌ متبادلٌ بفشل سياستين متناقضتين: سياسة دمج رسمية وسياسة اعتزال وعزلة تحبذ اللعب على وتر "الخوف من الذوبان والانصهار"، فتشكل في الدنمارك تسمية "غيتو" على تجمعات مهاجرين، عرب وغير عرب، في مدن كبيرة، هي أخطاء احتاجت سنواتٍ لمحاولة إصلاحها.

بالتأكيد، اكتشاف المأزق متأخراً كان أفضل من الإمعان في ترك الأمور عرضةً لأوهام متبادلة، فقد كان طبيعياً، في السياق السابق، وبعد تراكم جهود إيجابية كبيرة لتحولات مفيدة للجيلين، الثاني والثالث من أبناء المهاجرين، أن يجري الدفاع عن أخطاء فردية قاتلة، تحت تصنيف "الاستهداف والعنصرية".

على سبيل المثال، عنف وجرائم "الشرف"، ختان البنات، تحليل سرقة، خداع النظام الاجتماعي...إلخ، كانت قضايا تشكل مواد دسمة لهذا اليمين الصاعد، في خطابه الإعلامي والسياسي، ويردها إلى ديانة "المحمديين"، كما كان الأب الروحي لليمين الدانماركي، موينز غليستروب، (حزب الشعب) يسمّي المسلمين.

"صندوق بريد المهاجرين"، وبكل أسف، كان يتلقى محتواه من يرد دفاعاً وتبريراً غير مستساغين، لا عقلاً ولا منطقاً، قبل أن تتحول المبادرة، رويداً رويداً إلى جيلٍ شاب، لا يرى نفسه "ضائعاً وتائهاً ومنفصماً"، لأنه يخاطب عقل المجتمع الذي وجد نفسه فيه.

ثمة تعقيد يحمل معه معضلاتٍ كبيرة. ليس العرب وحدهم المسلمين في الدنمارك، لكنهم الأكثر ضجيجاً فيما يتعلق بالشكوى. أخيراً فقط أدرك بعض ممثليهم أن حرية العبادة مكفولة لهم، مثل أي بوذي أو يهودي أو هندوسي، لكن المشكلة أن بعضهم لم يستوعب بعد ذهنية مجتمعٍ قائم على الفصل بين الدين والدولة، وأن الدين هو الفضاء الخاص، وعادة، بسبب تاريخ طويل من النزاع مع سلطة الكنيسة، لا يحبذ هؤلاء أن يكون الدين جزءاً من الفضاء العام لحياتهم. لذا، تراهم لا يناقشون حتى مسائل دينية بسيطة في مجالسهم، الخاصة والعامة.

مسيرة تضامنية مع فلسطين في كوبنهاغن (العربي الجديد)

لا شيء يمنع المسلم من ممارسة طقوسه وشعائره، لكن ممارسات الماضي، والتي حملت إلى مجتمعٍ، لا يعرف عن الإسلام، خوفاً استغله اليمين، وللأسف، غذته ممارسات فردية، أساءت بجهلها لعموم الجالية. وفي السنوات الأخيرة، بدأت المبادرات أكثر تنظيماً، وبيد شباب وشابات يعرفون أن الوهم حول الانصهار والضياع لا يمكن أن يجعل الفرد فاعلاً ومؤثراً في مجتمعه.

أرقام مجتمعات تعددية

تشير إحصاءات رسمية إلى تحولاتٍ كبيرة، جرت في العقود الأخيرة في المجتمعات الإسكندنافية. مثلاً، يشكل المواطنون من أصول مهاجرة 23% من عدد سكان النرويج، البالغ خمسة ملايين، وأن 11% من عدد سكان الدانمارك يصنفون، أيضاً، كذلك، وتدني نسب الولادات بين السويديين يجري تعويضه من خلال المجتمعات المهاجرة واللاجئة. وقد لا يتعجب الباحث، في هذا الاتجاه، أن يكتشف أن 30% من سكان أوسلو هم من أصول مهاجرة، أغلبيتهم باكستانية المنشأ. وأمام تلك الأرقام، يصل عدد العرب في الدنمارك وحدها إلى أكثر من مائة ألف، يتقدمهم الفلسطينيون بحوالي 30 ألفاً والعراقيون بحوالي 25 ألف والمغاربة بحدود 11 ألفا والسوريون 8 آلاف، بينما الأردنيون 2150 والمصريون 2200 وحوالي 2000 من تونس والجزائر واليمن.

تلك الأرقام من مجموع أعداد المسلمين التي ازدادت، في العقد الماضي، لتصل، اليوم، وبحسب تقديرات المركز الوطني للإحصاء، إلى 220 ألف مسلم، منهم 62 ألفاً من تركيا وحدها.

في عام 2005، كان هناك 452 ألفاً يصنفون في الدنمارك مهاجرين، أي 8،4% من عدد السكان، وصل العدد إلى 626 ألفا في 2013، أي ما نسبته 11% من مجموع السكان، 335.709 هم من بلدان أوروبية.

ما يلاحظه المختصون في الهجرة ضعف التمثيل والمشاركة العربية، وغياب الاهتمام بوجودهم في الدول الإسكندنافية عموماً، إلى جانب غياب مؤسسات فاعلة ومبادرات جماعية، تجمع جهود هذه الأعداد الكبيرة التي لو ضممنا إليها الأرقام في كل من السويد والنرويج، لوصلنا إلى نصف مليون مهاجر عربي، أو من أصول عربية.

لم تعان الجالية العربية في السويد والنرويج "مشكلة سياسة الاندماج"، كما عانتها في الدنمارك، فعلى العكس، كان لتكدس المهاجرين في مناطق سكنية بعينها أثره السلبي، على ما يقول اليوم خبراء الدمج. وقبل سنوات، راح يُطلق على تلك المناطق "غيتو"، قبل أن تعاد صياغة توزيع السكن، بما يساهم في تعلم اللغة والاندماج السريع في المجتمع.

وبين الوهم والواقع، مضافاً إليهما نرجسية "نخب العرب" في الغرب، يظل سؤال الهوية مفتوحاً، مثل الجرح الذي ما أن يصل إلى حد التقرح، حتى يهرع بعضهم موسمياً إليه، مخافة أن يتوسع فيصيبهم شيء منه، تماما مثلما تفعل الجاليات اليهودية التي تتفرج، بدايةً، على نقاش الحلال والحرام، فما أن يتخطى الأمر حده المشمول فقط بغيرهم، حتى ينقضوا، فيصمت من يصمت، ويجمل من يجمل "صورة الذبح الحلال".

5698EA23-7F4D-47FA-B256-09D7BCA82E5A
ناصر السهلي
صحافي فلسطيني، مراسل موقع وصحيفة "العربي الجديد" في أوروبا.