صناعة الديكتاتور

صناعة الديكتاتور

08 ابريل 2014
+ الخط -

يقول الكاتب الصحفي العجوز إن "السيسي هو مرشح الضرورة"، ويراه "الأنسب لقيادة مصر خلال هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الوطن، لأنه يأتي من خلفية عسكرية". ... هذا، تحديداً، الفرق بين جيلٍ يرقد فوق تراثٍ طويل من ترويج الديكتاتورية الفردية، بدءاً من جمال عبد الناصر، وانتهاء بمن يرونه خليفته، وبين جيلٍ يرى أصل المشكلة في هذا الديكتاتور، وخلفيته العسكرية الجاثمة على صدور الشعب، منذ عام ١٩٥٢.
ويقول الشيخ العجوز المعمم، والذي لم يحترم علمه وشيبته، "اضرب في المليان فإنك مؤَيدٌ من الله ورسوله"، وهذا هو فارق بين شيخٍ أفقده الهوى السياسي عقله وبصيرته ومن يرفضون تأميم الدين والفتوى، ووضعهما في خدمة سلطان زائل.
ويقول الدكتور الفقيه، صاحب الفتاوي العصرية، إن "السيسي ووزير داخليته رسولان ابتعثهما الله لحماية الدين"، وهذا هو الفرق بين فقيه مؤدلجٍ متهافتٍ وفقيه آخر كالعز بن عبد السلام، والذي كان يحرض الناس على الحكام الجائرين الظالمين، عملاً بالقول المأثور "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
ويقول الشيخ السلفي الذي كان يحرّم السياسة، والعمل بها، قبل ثورة يناير ٢٠١١، إنه لا بد من تأييد السيسي، لأنه "رجل المرحلة، والأقدر على قيادة البلاد"، وليس لأنه سوف يطبق الشريعة، ويقيم الحدود، ويحكم بالكتاب والسنة، باعتبار ذلك هدف الدعوة السلفية الرئيسي، ومريديها، كما كان يدّعي طوال الأعوام الماضية.
في حين يتبنى الجهادي السابق، والذي قضى عمره في محاربة "الطاغوت" ومجابهة "الدولة الكافرة" وقتال "الطائفة الممتنعة"، وغيرها من المقولات الجهادية التكفيرية، حملة لجمع توقيعات، لكي يترشح السيسي لرئاسة الجمهورية. ويبادر رئيس الحزب الليرالي القديم، أو هكذا يدّعون، إلى إعلان دعم حزبه السيسي، وتحويل مقار حزبه مقراتٍ لحملة الأخير الانتخابية.
وتمتد قائمة المبايعين والمؤيدين والمروجين، فتشمل إعلاميين وباحثين وسياسيين وناشطين وليبراليين وعلمانيين ويساريين وناصريين، بعضهم ناضل ضد الرئيس السابق، حسني مبارك، ولا يجد، الآن، غضاضةً في مبايعة من هو أشد منه طغياناً وظلماً وتأييده. وهؤلاء جميعاً يصنعون، بأيديهم وأقوالهم ومواقفهم، ديكتاتورا جديداً، سوف ينقلب عليهم، بعد أن ينفض المولد. في حين يدرك بعضهم، جيداَ، أن هذا الديكتاتور سوف يكون أسوأ من سابقيه، ليس فقط بسبب عشقه للقوة والبطش، وإنما، أيضاً، لأنه سوف يأتي إلى السلطة بلهفة، وبتأييد منهم، وبدعم كامل من مؤسسات الدولة العميقة الفاسدة، ما سوف يعطيه من القوة والحصانة ما يجعله يتخلص منهم بكل سهولة، بعد أن يثبت أركان حكمه الجديد. هكذا، فعل كل من سبقوه، وهكذا يحدثنا تاريخ السلطويين الموتورين.


بعضهم يؤيدون الديكتاتور الجديد خوفاً من "بعبع الإخوان المسلمين"، والذي صنعه ويروجه إعلامٌ، فقد شرفه ونزاهته ومهنيته ليل نهار. وآخرون يؤيدونه طمعاً فى منصب وظيفي، أو مكسبٍ مادي واجتماعي، وبعض ثالث يؤيده، لأنه يمثل الثورة المضادة التي تسعى إلى إخماد كل ما له علاقة بثورة يناير، وهذه بالنسبة إليهم جزء من المؤامرة الكونية على البلاد والعباد. بيد أن المدهش فى هذا التأييد الأعمى أنه لا يتضمن أية شروطٍ، أو ضماناتٍ، أو تعهداتٍ، من الرجل، ليس فقط بأَلا يتحول إلى ديكتاتور جديد، وإنما بأن يقدم حلولاً لمشكلات وأزمات تضرب البلاد في التعليم والصحة والإسكان والطرق والمواصلات... إلخ. ما جعل الرجل يعلن، وبكل أريحية، في خطاب ترشحه للرئاسة، بأنه لا يعد بشيء، ولن ينجز أي شيء. في حين يرى بعضهم أن مطالبة الديكتاتور بوضع برنامج انتخابي رفاهية، لا تليق بمكانة الرجل.
صناعة الديكتاتوريات في مصر، والمنطقة، ليست جديدة، بل تكاد تكون المنتج الوحيد الذي قدمته العرب للبشرية، طوال النصف الثاني من القرن الماضي، وهو ما رأيناه، من قبل، في مصر الناصرية. وفي العراق، تحت حكم الطاغية صدام حسين. وفي ليبيا، تحت حكم العقيد المخبول، معمر القذافي. وفى سوريا، تحت الحكم السلطوي لحافظ الأسد، ومن خلفه ابنه السفاح بشار الأسد. بيد أن هذه الصناعة تبدو، الآن، أكثر فجاجةً، وإثارة للشفقة والتعجب، فهي تأتي، أولاً، بعد انتفاضات شعبيةٍ، هزت المنطقة من شرقها إلى غربها، وأطاحت رؤوساً سلطوية عتيقة، كانت تظن أنها ورثت الأرض، ومن عليها، وسوف تورثها لأبنائها وأحفادها.
ثانياً، إنها تأتي في وقت فقدت فيه الدول هيبتها، وقدرتها على شراء ولاءات الأفراد والشعوب بكلمات معسولة، أو خطب عاطفية حماسية، لا تسد رمق الأفواه المفتوحة، ولا تشبع البطون الجائعة، ولا تقنع العقول الحائرة، خصوصاً بعد أن تراجعت قدرة هذه الدول على إقامة علاقة زبائنية مع شعوبها، قد تسمح لها باجترار دعمهم رغباً ورهباً.
ثالثاً، تأتي صناعة الديكتاتور في وقت باتت فيه مصطلحات، كالتمرد والثورة والتظاهر والإضراب والعصيان المدني، من صميم الحياة اليومية للمواطن العربي، وجزءاً أصيلاً في مفردات قاموسه السياسي الجديد. رابعاً، إنها تأتي فى وقتٍ، ترفض فيها قطاعات شعبية عديدة، وخصوصاً من الشباب، أية مقايضة، أو صفقة، قد تأتي على حساب حقوقهم وحرياتهم وأحلامهم ومستقبلهم. صحيحُ أن بعض اليأس والتشرذم والانقسام انتشر بين هؤلاء الشباب، بيد أن مصدر الغضب والثورة لديهم يظل واحداً، هو: رفض الظلم والقمع والطغيان.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".