رمضان دورة زمنية ناقصة

رمضان دورة زمنية ناقصة

23 يونيو 2015
+ الخط -
يجبرك إعلان رؤية هلال شهر رمضان على النظر إلى الخلف، حيث ألقيتَ عاماً هجرياً بكل تفاصيله الشرق أوسطية. عند حلول رمضان، لا تكون الأرض قد أتمت دورة إهليليجية كاملة، فالتقويم الهجري "يتخلَّف" بحوالى عشرة أيام عن الميلادي.
أنظر في المرآة، ليس على طريقة الملكة الشريرة التي تسأل عن جمالها. ولكن، على طريقة "أليسا"، فلدى المرآة، على الرغم من طبقة نترات الفضة الرقيقة التي تطلي سطحها، ذاكرة ضخمة من رتبة الغيغا بايت، وقد اختار صانع المرايا ألا يضع لها لساناً، فحافظت على الصمت، بوصفه خياراً وجودياً، على الرغم من الذاكرة المتخمة. أتمعن في تفاصيلي. تزداد ملامح أمي وضوحاً على وجهي، ومساحيق العناية بالبشرة متوسطة الجودة، لا تخدع المرايا، لكنها تفضل أن تعكس صورة، مستقرة أصلاً، في خلايا العينين الضوئية، لا تخلق "الحملقة" في المرآة شعوراً بالرضا، بل تعطيك شعوراً ناقصاً، كالعام الهجري الذي قُضِمَتْ أيامُه العشرة.
رمضان الماضي، ورمضان الذي سبقه، والمطحنة الوطنية ذات الشفرات الحادة، ابتلعت كل الأحداث الكبيرة والصغيرة. يستحضر روّاد "فيسبوك" لحظات تعثرهم بخبر موت حافظ الأسد. لا أذكر أين كنتُ حينها، وترفض المرآة أن تخبرني، فتحتفظ بكل شيء لنفسها كالشاهد الصامت. ذكرى تضخم الكيان الداعشي ودخوله إلى الموصل. المناسبة هجرية، وباقي الذكريات ذات طبيعة ميلادية، أحيا التنظيمُ الأسود ذكرى تمدده المفاجئ بقتل رجالٍ قال إنهم جواسيس. ضربات التحالف الدولي لم تتوقف ليلة. وعلى الرغم من ذلك، تجد جيوش "الدولة الإسلامية" طرقات تسلكها لاحتلال مزيد من المدن. يلف الغموض طبيعة الضربات وموعدها وعمقها، يقول مسؤولو البنتاغون الأميركيون إن الضربات تقتل كثيرين، لكن التلفزيون يعرض صوراً دخانية اللون، تظهر هدفاً متحركاً ضمن مربع، ثم يعم السواد، وتضيع معالم الصورة مثل انعكاس الأشياء في المرايا المحطمة. ينقص الصورة شيء مهم، لتشكيل المشهد الذي يرفض أن يكتمل.
تتحكم السياسة بعدد الطلعات الجوية، وبطبيعة زخات الرصاص، وبنوعية الصواريخ، وبشكل الدراما أيضاً. تهرب المسلسلات ذات الإنتاج الضخم من الحكاية السورية، وتفضل أن تعود إلى الوراء قليلاً، فتضخم ما كان من انتقادات لدريد لحام ووخزات لياسر العظمة، وتعكسهما على مرايا محدبّة، فيظهر اللص الصغير على شكل عراب ضخم يخفي وراءه "سوسة البلا"، وتضيع معالم الرواية بين ثنايا الدراما الملفقة المصنوعة أصلاً للتسلية، يتبخر كل أثر للجوع والعطش، وتتلاشى فلسفة الصيام، فلا شعورَ بالجائعين والجوعى، الذين أضيف إليهم المقصوفون بالبارود والحديد الساخن. تبقى الدراما بشكلها الفني المعكوس على الشاشات التي تشبه المرايا. تساير المسلسلات رمضان، وتفترض مسبقاً أنه كامل بتمام أيامه الثلاثين، ولن يخيب رجاؤها إن نقص يوم من آخره. تعكس المرآة حالة حالية راهنة. لكن، ببعدين اثنين وتقلِّد الوقائع التي تجري أمامها بإتقان تام. نطلب منها المزيد، ونسألها أن تعود بنا إلى الوراء، أو أن تسافر بنا إلى الأمام. لكن، يأبى الزجاج الخروج عن طبيعته الفيزيائية المطلية بالفضة، وتبقى نقاطُ العَلام الزمانية كرمضان، تفجر الذواكر وتبعثر اللحظات.
كان هناك وطنٌ جريحٌ نزف أجزاءه مدينة مدينة، فلم يبق منه سوى دعوات إلى الاجتماع في جنيف، وصراع على من يتسيد الطاولة. والطاولة، هنا، مثل كل الأشياء في المفاوضات، غير مكتملة، تنقصها إحدى أرجلها، فلا فائدة من الاستناد عليها. الملفات العاجلة مُنَضدة فوقها كقطع الشوكولا، أكثرها إلحاحاً ملفا "يلعن روحك" و"الإرهاب"، وهناك ورقة منثورة، تُظهر درجات الطالب حافظ بشار الأسد النهائية في فحص الشهادة الإعدادية، ينظر إليها الجميع بنهم.
فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية