داخل صندوق النكسة

داخل صندوق النكسة

05 يونيو 2014
"حدود الصبّار"، محمد الحواجري / فلسطين
+ الخط -

باعتبار قصيدة نزار قباني "هوامش على دفتر النكسة" أبرزَ انعكاسٍ أدبيٍّ مباشرٍ لنكسة حزيران 1967، يمكن الكلام بحذرٍ على أنّ الهوامش التي اجترحها هي في الحقيقة "متونٌ"؛ فمرارة الألم الذي سبّبته الحرب كانت في جزء كبيرٍ منها ناجمةً عن التهويل في الأحلام، و"العنتريات التي ما قتلت ذبابه" على حدّ تعبيره، فضلاً عن الشعارات التي ما زالت تدور في الفراغ حتى الآن.

لكنه في قصيدة أخرى تلتها مباشرة تحت عنوان "شعراء الأرض المحتلة"، ذهب إلى توصيف حال الكتابة العربية في وقت مبكّرٍ بعض الشيء "ما زلنا منذ حزيران.. نحن الكتّاب/ نتمطّى فوق وسائدنا/ نلهو بالصرف وبالإعراب"، لتجعل هذه القصيدة وسابقتها من نزار نفسه مثالاً على تغيّر حال التجربة الكتابية في أعقاب النكسة؛ بمعنى انتقاله من شاعرٍ يستحضر المرأة وفتنتها وأنوثتها، إلى شاعر يتولّى الثورة والمقاومة وما يتهدّد وجوده، ويمارس في الوقت نفسه جلداً في حقّ الذات والعرب أجمعين.

أسوةً بنزار، مارست الكتابة العربية نقداً ذاتياً عميقاً، وجاهدت في سبيل إعادة الإعتبار إلى دورها ومكانتها عبر إشاعة ما يشي بالتوأمة بين القلم والبندقية، وتلازمهما في فوهة واحدة. فهي وإن غفلت، في شقّها الأدبي، عن تناول التجربة الحربية بدرجةٍ وافية، إلا أنّ النكسة انسربت فيها، وبطريقة درامية أحياناً مثل واجبٍ أخلاقيّ والتزام وطنيّ. حدث ذلك عبر أشكالٍ من إنعكاس أثر الهزيمة في الفرد والمجتمع العربيين، مُمثلةً بمظاهر التفكك والتشظي والانكسار والنكوص، كما تبدّى في هوامش نزار - أو متونه على حدّ زعمنا- التي يمكن عدّها استهلالاً لأدب النكسة، إلى جانب قصيدة أمل دنقل "البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة"، وغيرهما مما يشقُّ التمثيل عليه في عجالة.

إذن، ما الذي خلخلته الهزيمة في المجتمع العربيّ لكي يتّسق السؤال بموجبه حول اختلاف الكتابة العربية بعد 1967؟ التجارب الكتابية التي ظهرت بعد ذلك التاريخ لم تكن مفصليةً كما قد يعتقد أو يدّعي البعض، عدا أن ظهورها في أعقاب النكسة مباشرة، من دون أن يفصل بينهما سوى مدة زمنية ضئيلة، لم يسمح لأي نتائج حقيقية بالاختمار، وظلّت بالتالي داخل الصندوق.

وفق ذلك، خسر الشرط التاريخي امتيازه للتقييم والمفاضلة؛ لأنّ تلك الكتابة جاءت انفعالية، ومرحليةً إذا جاز التعبير، أشبه ما تكون بردّة فعلٍ فورية على انتكاسةٍ لم تكن تبعاتها ونتائجها قد اتضّحت بما فيه الكفاية. بمعنى آخر، لم تتحرك إلا وفق بوصلة وشروط غيرها، وصارت جدارة الكتابة وجدواها آنذاك تقاس بمسطرة التجاوب مع هزيمة حزيران وتبعاتها، فيما لم يستطع الكاتب العربيّ أن يتفلّت من سطوة الزمن، وعجز عن تدجين اللحظة وتجاوزها مبكراً عبر اختياره السّير في جنازتها، فجاء نتاجه مجزوءاً، وقاصراً عن تبنّي حالة متقدّمة من التخطيط لتاريخ أفضل.

إضافة إلى ما سبق، توزّعت انعكاسات النكسة في الكتابة العربية على عدة أوجه، يمكن المرور سريعاً على ثلاثةٍ هي الأبرز بينها؛ الأول: وجه الانكسار والإحباط وجلد الذات الذي شاع في ثقافة الهزيمة، واكتفى في بعض الأحيان بتعظيم الخسارة وفق مزاجٍ متشائم تعثر فيه على أشباه لأبطال دوستويفسكي. الثاني: وجهٌ أغمض عينيه عن المأساة، وهرول نحو حلول التسوية والتصفية السياسية والترويج لها كخيارٍ تبشيريٍّ أوحد. الثالث: وجهٌ تكشّفت تقاسيمه بعد مرحلة ضبط النفس والقراءة والتحليل، آثر التعامل بعقلانية مع النكسة كواقعٍ لا مفرّ من مواجهته بدل التباكي عليه، ومحاولة دراسة وتوصيف علاقته بحال الأمة وتأخّرها للتأكيد على نهج التحرر وعدم الانكسار.

قصارى القول، أدركت الكتابة العربية، متأخرة بعض الشيء، أنها كانت خلال الفترة التي تلت حزيران 1967 تخوض حرباً موازية للهزيمة، بحثاً ربّما عن انتصارٍ ما، أو سعياً لإثبات البراءة من دم النكسة، وتكفيراً عن ذنبٍ عاشت في أوهامه. هكذا، ظلت تتقلّب بين مدّ الألم وجزر الأمل بأثرٍ من الجو السياسي الذي كان يعشعش ويفرّخ حولها في الوطن العربي. بعد نحو نصف قرنٍ، ثمة من لا يزال يوغلُ في موقعة النكسة، ويتعامل معها باعتبارها "ملطمة" ترتهن إليها كتاباته ويُشبع من خلالها هواجس النّدب وعقدة الذنب.

دلالات

المساهمون