... خرجوا من التاريخ ولم يدخلوا الرواية

... خرجوا من التاريخ ولم يدخلوا الرواية

23 ابريل 2014

وفاة ماركيز تتقدم أخبار الصحف (أ.ف.ب)

+ الخط -

لم تجتهد المصادفة كثيراً عندما ربطت، في تزامنٍ مشوبٍ بالسخرية، بين إعلان وفاة الكاتب اللاتينو -أميركي، غابرييل غارسيا ماركيز، وانتشار خبر أن الجن أطلقت ألعابا نارية في منطقة في السعودية قرب مستشفى مهجور. فقد اعتاد الروائي، صاحب جائزة نوبل للآداب، أن يرتقي بالوقائع البسيطة إلى مآثر خيالية، بوأته ريادة الواقعية السحرية، أو الجنوح الوقائعي، عندما تكون المادة الواقعية، أو الواقع نفسه، مجرد فخٍّ من فخاخ الخيال، لاصطياد طرائده الأدبية، والروائية خصوصاً.
هو الذي كان يحلم بحياةٍ أخرى، تُضاف إلى كل حيواته التي عاشها، كان سيلتقط ذلك، لكي يتحدث عن هذا الواقع المنفلت، الهارب إلى خلوةٍ في التاريخ، ليعيد بناء حضارة الأمة، تحت ألوية الإيمان. وسبق أَن تحدث طويلا عن روايته "مائة عام من العزلة"، وشرح مشاهد اعتبرناها محض إفراز خيالي مخصب، وتبين من حديثه (ترجمته مجلة "جسور" المغربية طيبة الذكر فيما أذكر)، أنها كانت تحميضا مكبراً للواقع. ومن ذلك، تلك اللقطة، في روايته الشهيرة، عندما يتحدث عن شخصية روائيةٍ، تتبعها الفراشات أينما حلت وارتحلت، وفسّرها بأنها استنجاد بصورة لفراشات كولومبية، كانت فعلاً، تحوم حول عامل ميكانيكي وبائع وقود.
ملامح الخيال القروسطوي، كما ترتسم في الخبر النكتة، لا يمكن أن تنفلت من خيال الروائي، وما كان لها أن توجد، من دون متنٍ، يبني به الكاتب سيرة البلدان العربية.
من سوء حظ الرواية أن الديكتاتور العربي يكتبها، في محاولةٍ جادةٍ للدخول إلى التاريخ، ومن سوء حظ ماركيز أنه لم يكن على علاقة وطيدة بالعالم العربي، إلا مما تركته "ألف ليلة وليلة" في مضمر العقل الأدبي اللاتيني، من بورخيس إلى خوليو كورتاثار، مروراً بباولو كويللو الذي يعلّب السحر الشرقي في طوطم لاتيني محكوم الإغراء.
على ما يذكر التاريخ الشخصي للروائي "غابو" الهائل، كان لقاؤه بالعالم العربي، الحي والملموس، في 11 ديسمبر/ كانون أول 1960، في باريس، وقتها اعتقل الكولومبي الشهير الأمنُ الفرنسي الذي كان يشحذ كل قوته للتنكيل بالمتظاهرين الجزائريين، أنصار جبهة التحرير الوطني، قائدة النضال من أجل استقلال بلاد المليون شهيد. انهالوا عليه بالضرب، وجرّوه إلى مخفر الشرطة، وهناك كان له احتكاك مباشر مع الثورة الجزائرية، باعتباره صحافياً هارباً من بلاده. وفي الأرشيف الوطني الجزائري ما يؤرخ تلك اللحظة، على ما قال المسؤول عن المقاومين الجزائريين في فرنسا وقتها، علي هارون.
ومرة أخرى، تركت المصادفة الروائي يفلت من شباك الحكي العربي، لأنها بكل بساطة جاءت قبل الحكي بسنوات.
وظل اللقاء بين الروائي والديكتاتوريات العربية المجيدة من دون تحضير جدي! وحقيقة السؤال: هل كان يمكن أن يتم مع الديكتاتور العربي ما تم مع نظيره اللاتيني في مسار الخيال الروائي؟ أشك في ذلك حقاً.
لأسباب جد مقتضبة، أهمها أن الديكتاتور العربي، كان اسمه معمر القذافي أو صدام حسين، يعتبر أن الرواية، أيضاً، من أركان الحكم، ولا يكتمل العبث السلطوي من دونها. لذلك،  آثرا الكتابة: صدام عن زبيبة والملك، ومعمر القذافي عن رائد الفضاء والأرض، وسيرة كل منهما طويلة في هذا الباب، والمؤلفات التي أفرزتها عبقرية الحكم كثيرة العناوين.

"
كان ماركيز سيبقى وحيداً في ظل الديكتاتور العربي، وتدركه العزلة بلا شك، فالأخير، عادةً، يفقد حس النهاية، ويعيد الكاتب الذي يفقد، في النهاية حس الفكاهة الضروري في توقع نهاياته

"


وما كان للروائي أن يجد مكاناً له في حياة الديكتاتور العربي، الذي يقرأ، يكتب وينتصر على الأديب، لأنه، على عكس الديكتاتور الذي يؤثث روايات غارسيا ماركيز، لا يعيش العزلة.
كان ماركيز سيبقى وحيداً في ظل الديكتاتور العربي، وتدركه العزلة بلا شك، فالأخير، عادةً، يفقد حس النهاية، ويعيد الكاتب الذي يفقد، في النهاية حس الفكاهة الضروري في توقع نهاياته. كيف ذلك:
الديكتاتور العربي، سواء كان يحتمي بالجن أو بالمليشيات، لا تعطيه الحياة شرف العزلة، لكي يشتغل قليلاً على ذاته، ويختبر قدرته على ذكرياته. إنها تعجل به إلى بلدان أخرى، كما في حالة زين العابدين بن علي، أو إلى السجن كما في حالة حسني مبارك، أو يضعه عرضة لقناص شكسبيري، يختبر به المعادلة الخالدة: أكون أو لا تكون البلاد كما في سورية. هرب غارسيا ماركيز من ديكتاتورية بلاده، وجاء إلى فرنسا، حيث عاش صحافياً. وكانت المصادفة، ربما في المرة الوحيدة، تعد له تماسّاً محدداً بالديكتاتوريات في شرق المتوسط، كما تابع جحيمها عبد الرحمن منيف، لأنها ديكتاتورية كانت ستثير قرفه مع ذلك.
هي عدو بلا خيال، وغير قادر، مثل كل قاتل مهني، على أن يخلق للابتكار مهلة، ولو كانت قاسية. إنها دكتاتوريات خرجت من التاريخ، ولم تدخل الرواية.


 

 

 

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.