حكاية أم محمود

01 مارس 2015
هي من أبطال ذاكرتنا الشعبيّة (الأناضول)
+ الخط -

في المحن والأزمات، غالباً ما تُستعاد حكايات تختزنها الذاكرة الشعبيّة.. حكايات أبطال عاشوا في أزمنة غابرة، وآخرين نسجتهم المخيلات.

يُحكى أن أم محمود كانت امرأة سوريّة استثنائيّة، عايشت الإقطاع السوري قبل عقود من اليوم، وعانت مع عائلتها كل أشكال الظلم والاضطهاد والفقر. لكنها لم تفقد البوصلة يوماً. فهي قاست الكثير لتحافظ على كرامتها، رافضة كل أشكال استعباد البشر واستغلالهم.

في صباها، تعلمت أم محمود مهنة القبالة، لكنها اشتغلت كذلك في كلّ ما أتيح لها من أعمال، في قريتها البعيدة في جبل الشيخ (جنوب سورية). عملت في الزراعة والحصاد وتربية الأبقار وبعض أعمال الخياطة والتفصيل. لم يكسرها الفقر يوماً ولم تخضع لإقطاعيّ ظالم، أو طامع بجمالها أو مستخفّ بقدراتها. فكانت مضرب مثلٍ في التجلّد.

ويتداول أهل تلك المنطقة حكاية أم محمود وذلك الإقطاعي الشاب، الذي كان يمتلك معظم أراضي قريتها. ففي إحدى الأمسيات الصيفيّة، حضر ضيف من قرية بعيدة إلى الإقطاعي الشاب. وكعادة أهل القرى، دعا وجهاء البلدة ليسهروا مع الضيف، ويشاركوه في مائدة الطعام التي أعدّها له. كانت أم محمود تعمل في مطبخ زوجة الإقطاعي مقابل أجر جيّد، استحقته لمهارتها في إعداد الأطباق اللذيذة. في خلال الأمسية، راح الإقطاعي الشاب يتفاخر أمام ضيفه بقوته الجسديّة، وأراد أن يستغل الفرصة لإذلال رجال القرية الحاضرين، تأكيداً على سيطرته عليهم جميعاً. فطرح رهاناً صعباً، وقد تحدّى كل الرجال أن يصمدوا في مصافحته، وأن يتحملوا ضغط الإقطاعي على راحات أيديهم. كان الإقطاعي يعرف جيداً كيف هم، ومدى خوفهم منه وعدم قدرتهم النفسيّة ولا الجسديّة على تحديه. فرفع مستوى التحدّي قائلاً إنه سيترك القرية نهائياً، في حال استطاع أحدهم تحمّل قوته من دون صراخ أو من دون استسلام للألم.

في الغرفة المجاورة، كانت أم محمود. سمعت الحديث كاملاً، وسمعت كذلك اعتذار الرجال الواحد تلو الآخر عن خوض التحدّي. فما كان منها إلا أن اقتحمت المضافة لتفاجئ الجميع بقولها: "رجالنا أكبر بكثير من أن يقبلوا تحدي شاب ضعيف مثلك. أنت يناسبك أن تتحدّى نساءنا فقط. وها أنا جاهزة لقبول الرهان".

ذُهل الحاضرون من جرأتها، وحاول بعض رجال القرية منعها من خوض التحدي، لكنها أصرّت على موقفها ومدّت يدها الخشنة إلى الإقطاعي. لم يكن لدى الإقطاعي الشاب سبب لرفض عرض أم محمود، بالإضافة إلى أنها امرأة ولن تستطيع التحمّل. فأخذ يدها وراح يضغط عليها بقوّة. لم يرمش لها جفن، ولم تحرّك رأسها المرفوع. بدأ الخوف يدبّ في قلب الإقطاعي، فراح يزيد ضغطه على يدها، حتى بدأ الدم يخرج من تحت أظافرها. لكنها لم تتأوه ولم تحوّل نظرها عن وجهه لحظة. أدرك الإقطاعي أنه خسر رهانه وخسر قريته. فترك يد أم محمود غاضباً وخرج من المضافة. ومذ ذلك الحين، لم يرَه أحد في القرية. فقد باع كل أملاكه وغادر في اليوم التالي، بحسب ما تناقله الأهالي.

لم تكن أم محمود حالة فريدة في سورية، يوماً. فكثيرات هنّ النساء السوريات اللواتي قاومن الظلم، وعملن بجهد للحفاظ على كرامتهنّ التي ورثنها أباً عن جدّ، والتي ورّثنها بدورهنّ لعائلاتهنّ في وقت لاحق.

بعد أكثر من سبعين عاماً على تلك الحادثة، وبعد نحو عشر سنوات على وفاة أم محمود عن عمرٍ ناهز المائة، انطلقت الثورة في سورية. لم يكن غريباً أبداً أن يلتحق أحفاد أم محمود بها، منذ اليوم الأول لانطلاقها. فقد شاركت العائلة بكلّ أفرادها في التظاهرات المطالبة برحيل الظالم. تحدّوا كل أشكال العنف والإرهاب، رافضين العودة عن مطالبهم مهما كان الثمن.

وبدأت الضغوط تشتدّ على أبناء العائلة من قبل بعض الأقارب وأبناء الحيّ، علّهم يغيّرون موقفهم من الثورة ويكفّون عن دعمهم لها. ووصلت الضغوط إلى حدّ القطيعة الاجتماعيّة. إلى ذلك، طُرَد حسام محمود (55 عاماً) وهو أحد أحفاد تلك المرأة الاستثنائيّة، من عمله في وزارة التربية في محاولة لمضاعفة الضغط على العائلة. لكن حسام لم يتوقف عن دعم الثورة والدفاع عنها وعن النشاط في الإعلام الثوري ومن ثم في أعمال الإغاثة، إلى أن اعتقل في نهاية عام 2012. هو ما زال قابعاً في السجون السوريّة حتى اليوم.

أما رامي حسام حفيد أم محمود الأصغر، فقد استشهد في خلال إطلاق نار على إحدى التظاهرات في دمشق، قبل أن يعتقل الأمن العسكري حفيداً آخر هو مهيار، بتهمة المشاركة في التظاهرات المعارضة وتأمين الدعم الطبي ومواد الإسعاف إلى داريا (غرب دمشق) المحاصرة. بعد نحو شهر واحد، أطلق سراحه، لكنه كان مصاباً بكسر في كتفه.

على الرغم من هذا كله، بقي دم أم محمود الثائر والنابض بالكرامة، يسري في عروق أحفادها ويحثّهم على الاستمرار. لم تهادن عائلة حسام ورامي ومهيار، ورفضت التراجع عن تحديها، وأصرّت على مشاركة أبناء هذا الوطن معاناتهم وصمودهم.

حكاية أم محمود وأحفادها ما هي إلا حكاية شعبٍ كامل، يحمل تاريخاً مليئاً بوقفات عزّ وكرامة في وجه كل ظالم أو مستعمر أو مغتصب.. حكاية شعبٍ ما زال يسطّر ملاحم صمود غير مسبوق، وسيبقى كذلك طالما يسري ذلك الدم في عروقه.

دلالات

المساهمون