حدائق حيوان الإنسان

02 ابريل 2015
+ الخط -

من منّا ينسى صورة "كيم كارداشيان" وهي ممسكة بزجاجة الشمبانيا الفائرة من ناحية وواضعة كأساً على مؤخرتها من الناحية الأخرى، هذه الصورة الغريبة التي أثارت إعجاب وفضول الكثير، وفي نفس الوقت أثارت حنق البعض الآخر، فما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الوضعية التي تتخدها كارداشيان في الصورة تحاكي بها امرأة تدعى "ساره بارتمان"، التي تم استغلالها بسبب حجم مؤخرتها الكبير جداً في عروض في جميع أنحاء أوروبا، فبعد أن تم إرسال سارة إلى لندن في عام 1810، خضعت في بداية الأمر لعدد من الدراسات لتشريح جسمها الغريب، كانت سارة تعرض في سيرك (بيكاديللي) تحت إشراف مدرب "الحيوانات" المفترسة، وكان يسمح للمشاهدين بلمس مؤخرتها الكبيرة مقابل زيادة في سعر التذكرة، أجبرت سارة على العمل في السيرك وكان يتم عرضها وهي عارية تماماً، وكانت تجبر على القيام بعروض تظهر فيها كحيوان مفترس حيث أنها تؤمر بالجلوس والوقوف، وكانت تحبس في قفص للحيوانات المفترسة وتجبر على الرقص لسجانيها.

بعد أربع سنوات من قدومها إلى لندن، تم نقل سارة إلى باريس أيضاً، لتعمل في السيرك تحت إمرة مدرب للحيوانات المفترسة، حيث بقيت هناك خمسة عشر شهراً، درس كثير من العلماء التشريحيين هناك جسدها باعتباره "ظاهرة" وعلى رأسهم البارون جورج كوفييه، وهو الجراح الخاص بنابليون بونابارت، على أساس ذلك تم نشر عدد من الدراسات التشريحية المزورة ومفادها أن أجسام الأفارقة متشابهة مع القردة وأن الجنس الأوروبي هو الجنس السامي.

توفيت سارة عام 1816، ثم احتفظ بهيكلها العظمي ليصنع منه قالب للجسد، وتم عرض رفات سارة في متحف في باريس يدعى بمتحف الإنسان. هناك أيضاً تابع كوفييه دراسته في التشريح المقارن محاولاً أن يثبت أنها أقرب إلى القرد، بالذات إنسان الغاب أورانج أوتان، وفي عام 1974 تم إزالة هذا الرفات من المتحف في باريس ووضعت في المخزن ونسي أمرها تماماً.

تعتبر قضية سارة شاهداً على حقبة سوداء مظلمة في تاريخ الإنسانية، حيث ظهرت أبشع معاني العنصرية وإدعاء التفوق العرقي للبيض في هذه القصة البائسة، هذه العنصرية التي مازالت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا الحالية، رغم محاولة البعض اعتبارها إرثاً من الماضي، إلا أن رواسبها تظهر بين الحين والآخر في شكل مختلف نظراً لطبيعة العصر الحالي، ولا شك أن العنصرية قد طفت على السطح مؤخراً في السنوات الأخيرة، حيث تجلت في العديد من الأحداث العالمية، كان أبرزها قضية فيرجسون في الولايات المتحدة، ويخطئ من يظن أن سارة برتمان حالة منفردة، فقد كانت سارة مجرد فصل من ملف كبير يدعى، بحدائق حيوان الإنسان، الحدائق التي حاول بها الغرب أو الرجل الأبيض بالتحديد إظهار تفوق وسموه العرقي عن بقية البشر، حيث يقوم المستعمرون بجلب، أو بمعنى أصح خطف، السكان الأصليين من مواطنهم الأصلية، وعرضهم في حدائق وأقفاص كالحيوانات، من أجل إمتاع الجماهير وإرضاء كبرياء الرجل الغربي وإشعاره بأفضليته عن سائر الخلق.

وكانت بداية هذه القصة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع ولع العلماء بالأعراق وتنوعها، مما دفعهم لخطف وجلب أشخاص من جميع أنحاء العالم لعرضها أمام العالم الغربي "المتحضر"، بحيث يظهرون بذلك الاختلافات العرقية ومدى تفوق العرق الأبيض عن سائر أعراق الأرض.

أوتا بينغا وقصر الإنسان الغربي

بدا الشمبانزي للأطفال في المعرض، أذكى من الشاب "أوتا بينغا"، والذين حاولوا رمي الموز حتى يلتقطه، إلا أن بينغا لم يتحرك من مكانه بينما قام الشامبانزي الذي كان بجانبه بالتقاطها، مما عزز فكرة أن الشامبانزي أكثر ذكاءً في عقول هؤلاء الأطفال، إلا أن الشاب بينغا لم يتحرك لالتقاط الموز بسبب غبائه كما تصورا، بل هذا الشاب الذي تم قتل أهله على يد "القوة العامة" الكونغولية التي أسسها ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، (والذي يعتقد أنه تم قتل أكثر من 10 ملايين إنسان أفريقي على يده)، بجانب مقتل أهل القرية التي كان يقطنها، واصطياده وأسره على يد تجار الرقيق وإرساله إلى أميركا لعرضه أمام الناس وإثبات تطور وسيطرة الرجل الأبيض مقارنة بهذا الشاب الأسود ذي القامة القصيرة الذي لا يختلف كثيراً عن عشيرته، فبالتأكيد داخله الكثير من الحزن والغضب والألم، ما من شأنه منعه من الاستجابة أو حتى الإحساس بمن هم حوله.

لم يتحمل بينغا وجوده في القفص، فهو في حقيقة الأمر إنسان كامل وليس قرداً كما يحلو لهم وصفه، أدت حالة بينغا النفسية المحطمة، إلى أن تتعاطف معه بعض المؤسسات الخيرية أنذاك، بعد أن وجدوه منكسر النفس، غارقاً في دموعه دائماً لا يستجيب لأحد، حيث قاموا بتعيينه في مصنع لصناعة التبغ، إلا أن هذا لم يخفف عنه آلامه، فمع الوقت ازدادت كآبته وحزنه في ظل تأكده من عدم استطاعته العودة إلى وطنه مرة أخرى، وما هي إلا شهور حتى تأكد بينغا من أنه لا مفر من التخلص من هذا العذاب إلا بالانتحار، وبالفعل قام بينغا بسرقة مسدس وإطلاق النار على نفسه في عام 1916.

عندما يعرض الإنسان في قفص كالحيوانات

لم يكن سارة وبينغا وحدهما من عانوا من وحشية الرجل الأبيض، فهناك المئات تعرضوا لمثل ما تعرضا له، فخلال بدايات القرن العشرين، أقامت ألمانيا ما كانت تسميه بـ Völkerschau أو "عرض الناس"، حيث كان يتم جلب الأفارقة في المهرجانات وحدائق الحيوانات لعرضهم أمام الأوروبيين، وكانت أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ملآنة بحدائق حيوان الإنسان، حيث أقيمت هذه الحدائق في أكبر المدن والعواصم الأوروبية، مثل باريس وهامبورج وبرشلونة ولندن، ميلان وارسو، ونيويورك، واستمرت هذه المعارض في القرن العشرين وقدر عدد زائري كل حديقة من هؤلاء بحوالى 300 ألف بالمتوسط في كل مدينة، حيث يتم عرض الأفارقة والأسيويين والسكان الأصليين حول العالم في أقفاص لإمتاع المشاهدين، وإليك بعض أبرز هذه المعارض.

-في ألمانيا، عرف "كارل هاجنبيك" بإقامة هذه المعارض، والتي أسماها "شعوب الطبيعة النقية"، والذين كانوا دائماً ما يجلبهم من جزر شرق آسيا، لكن في عام 1876، أرسل معاونه إلى السودان حتى يجلب "بعض الوحوش والنوبيين"، وقد كان لهذا المعرض النوبي المتنقل أن يحقق نجاحاً كبيراً في باريس ولندن وبرلين، كما قام بإرسال مساعد له إلى منطقة "لبرادور" الكندية لجلب أشخاص ينتمون إلى قبائل الإسكيمو من مستعمرة "هوبيدالي"، الذين تم عرضهم في هامبورج.

-قرر جوفروا دو سانت هيلير، مدير حديقة "التأقلم"، في 1877 بتنظيم عرضين من نوع "المشاهد الأثنولوچية"، وذلك كان الاسم الذي يطلق على مثل هذه العروض حينها، حيث قام هيلير بعرض نوبيين وأفراد من الإسكيمو هذه السنة في حديقته هذه، حتى تضاعف عدد المشاهدين بين عامي 1877 و 1922 إلى مليون مشاهد، وتم عرض حوالى 30 عرضاً تقريباً من هذا النوع خلال تلك السنوات.

-تم عرض بعض السكان الأصليين من "سورينام" في المعرض الدولي للمستعمرات والتصدير في امستردام، والذي أقيم خلف متحف ريكس عام 1883.

- في عامي 1878 و1889، تم إقامة ما يسمى بـ"قرية الزنوج" في معرض باريس العالمي، ويقدر عدد زائرين المعرض بـ28 مليون زائر، حيث تم عرض 400 ساكن أصلي زنجي في المعرض العالمي عام 1889 لجذب انتباه الجماهير.

-وفي المعرض العالمي سنة 1900، تم عرض نموذج من حياة السكان الأصليين في مدغشقر، بينما كانت العروض في مارسيليا وباريس ما بين عامي 1906 إلى 1931 تتضمن عروضاً لسكان أصليين داخل أقفاص، وفي كثير من الأحيان كانوا عراة أو شبه عراة.

-ويعتبر معرض باريس عام 1931 من أنجح المعارض، حيث حضره ما يقرب من 34 مليون شخص خلال 6 أشهر، في حين تم إقامة عرض أصغر مضاد لهذه العروض العرقية والعنصرية على يد الحزب الشيوعي، حيث قاموا بالتنديد بالسياسات الاستعمارية، لكن لم يحضره إلا القليلون.

-قام "جويس هيث" في 25 فبراير/شباط عام 1835، بإنشاء معرض يعد من أوائل المعارض التي تم عرض أناس فيها، حيث قام بعرض أمَة أميركية من أصل أفريقي لم يبقى لها إلا القليل من الأيام لتعيشها، وكانت هذه الأمَة عمياء وشبه مشلولة بالكلية، اشتراها شخص يدعوى، "بي.تي. بارنم"، والذي بدأ عمله في هذا المجال بعرض هذه الأمة، مدعياً أن عمرها 160 عاماً وأنها كانت ممرضة جورج واشنطن، لم تمر الكثير من الشهور بعد هذا العرض حتى ماتت هذه الأمة، فيما كان عمرها الحقيقي 80 عاماً.

-وفي عام 1829، قام التاجر الاسكتلندي، "روبرت هانتر" والذي كان يعيش في بانكوك، بشراء التوأم السيامي شانج وإنج، من والديهما، حيث قام بعرضهم في جميع أنحاء العالم.

ماذا بعد؟

ما ذكرناه هو مجرد صفحة من كتاب ضخم، مليئة فصوله بآلاف القصص التي تظهر مدى توحش الغرب وإدعاء الرجل الأبيض تفوقه مقارنة ببقية الأعراق، هذا الإدعاء الذي ما زال موجوداً حتى الآن وتتبناه الحركات النازية الجديدة وبعض الحركات اليمينية في أوروبا وأميركا، إلا أنه يتم كبحهم من حين لآخر، لكن مع زيادة هجرة العرب والملونين إلى أوروبا وأميركا حاملين معهم ثقافتهم الخاصة، وتزايد الاحتكاك بين الأجناس المختلفة الذي نتجت عنه مشاكل كثيرة كتصادم الثقافات والحضارات خلال السنوات القليلة الماضية، وجب علينا أن نسأل هل ستطفو رواسب العنصرية الفجة وادعاءات تفوق العرق الأبيض على السطح مرة أخرى؟


(مصر)

المساهمون