ثورة العرب على إيران

ثورة العرب على إيران

23 يونيو 2014
+ الخط -

قوس الثورة الممتد من سورية إلى العراق فعل ثوري بامتياز، ويندرج في إطار حركة الربيع العربي الأوسع، لكنه، في أحد أبعاده، يشكل تمرداً على السياسة الإيرانية في المشرق، تلك السياسة التي عملت في العقد الأخير، وفي إطار استراتيجية أوسع، على قلب المعادلات الجيوسياسية لمصلحتها، ضمن محاولاتها الاستفادة من المتغيرات التي حصلت في المنطقة، وتثبيت وقائع نهائية في قلبها، تخدم مشروعها الطامح إلى السيطرة على المنطقة، وخصوصاً القلب منها، المشرق العربي، كمرحلة أولى، ثم الانتقال، بعد ذلك، إلى استكمال حلقات مشروعها الأوسع.
ربما لم يكن في متخيل السوريين والعراقيين العاديين مواجهة مشروع إيران الجيواستراتيجي، ذلك أن حراكهما كان يهدف إلى تحقيق أهداف أقل تعقيداً، كالحرية والعدالة والمساواة، وربما حتى أبسط من ذلك، حقهم في الحياة، بعدما صار يتعرض هذا الحق لدى مكوناتٍ معينة للاستهداف، عبر استسهال القتل بطريقة مستفزة، لكنه، حتى في هذا الأمر، بدا أنه يحارب جيواستراتيجياً المشروع الإيراني، ذلك أن مترتبات مشروع إيران لم تكن تحتمل مثل هذا النمط المطلبي، لما ينطوي عليه من إمكانية لتغيير الهياكل السياسية المرتبطة بالمركز الإيراني، ما جعل الثورة في البلدين تشتبك مع المشروع الإيراني في نقاط تماس ساخنة.
بعد الاحتلال الأميركي للعراق، بدا أن إيران ربطت كل مفاصل الدولتين السورية والعراقية ضمن أطر مشروعها الكبير، ليس فقط ما سمي محور المقاومة، بل جرى دمجهما في إطار نظامها السياسي، ونسقها الإيديولوجي، والقائميْن بصفة أساسية على مذهبية واضحة، وعلى درجة عالية من السياسات التمييزية ضد المكون السني في المنطقة. وهكذا بدا واضحاً انزياح السياسة العراقية باتجاه هذا المسرب، وصولاً إلى سياسات التنكيل والتهميش التي اتبعتها الحكومات العراقية المتعاقبة ضد السنّة في العراق، في حين كان الحكم في سورية، وبعد خروج جيشه من لبنان، يتقوقع، بدرجةٍ كبيرةٍ، حول حكم الطائفة، ويجري تنويعاتٍ من عمليات الإقصاء والتهميش ذات الطابع الممنهج للمكون السني، مرّة عبر محاربة الفساد، والتي جرى فيها إقصاء ومحاكمة شخصيات سنية عديدة معروفة، ومرة عبر ملاحقة الشباب بحجة التطرف، ودائماً عبر سياسات القمع والتنكيل.


هذه السياسات كانت تتعاظم بدرجةٍ ملحوظةٍ مع زيادة اندماج النظامين في سورية والعراق ضمن إطار المشروع الإيراني. في الوقت نفسه، بدا أن البلدين تحوّلا مجرد أدوات وظائفية ضمن ذلك المشروع، ولتنتهي شيئاً فشيئاً استقلاليتهما الخاصة، ويتحولا بلدين بلا مشاريع سياسية وهويات وطنية واضحة، ففي حين صار العراق مجرد بلد مزارات واستعراضات مذهبية، إضافة إلى وظيفته التمويلية للمشروع الإيراني، تحولت سورية إلى مجرد حديقة خلفية لنشاط حزب الله، من حيث تسهيل مرور الأسلحة وتخزينها، أو كونها رابطاً بين إيران وحزب الله، وذلك كله في إطار عملية استلاب واضحة للهوية السياسية لأنظمة البلدين.

على الأرض، كانت إيران تمد جسور مشروعها جغرافياً على طول المساحة الممتدة من خليج العرب إلى البحر المتوسط، موفرة له بنيةً تحتيةً ترتكز، بدرجة كبيرة، على تزخيم النهوض الشيعي في العراق وسورية، مقابل تهميش المكوّن العربي إلى أبعد درجة، وقد اتخذ المشروع استراتيجية فتح الممرات بين العراق وسورية ولبنان، أما سياسياً فقد جعلت حكام بغداد ودمشق يتبعون مبادراتها السياسية، وخصوصاً في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية.
لم تكشف الثورتان السورية والعراقية عند اندلاعهما خفايا كثيرة في تلك العلاقة، وذلك الاندماج الحاصل في أطر السياسة الإيرانية، بقدر ما أجبرت إيران على تظهير تلك السياسات للملأ، وإعلانها بشكل شفاف وواضح، ليس فقط من خلال تأييدها سياسات وكيليها، بشار الأسد ونوري المالكي، بل من خلال نزولها المباشر إلى أرض الميدان ومحاربتها للثوار، عبر الكتائب التي يتولى قاسم سليماني رئيس فيلق القدس إدارتها "حزب الله، عصائب الحق، الفضل أبو العباس... وسواها"، وهو اليوم يتنقل بين بغداد ودمشق، ولا يطمئن إلى الترتيبات، إلا عبر إشرافه المباشر.
واليوم، تشكل حالة تكامل الثورتين في سورية والعراق ضربة كبيرة للمشروع الإيراني، فهي، من الناحية السياسية، تشكل هزة عميقة للمشروع في جناحه العراقي الذي كانت طهران تعتقد أنه صار منطقة نفوذ مستقرة نسبياً، الأمر الذي يعني انفجار مشروع الهلال الشيعي من داخله، وفي بُعدها الجغرافي، فإن الثورة كسرت رؤوس الجسور الرابطة للمشروع، غرب العراق، الذي يشكل الطريق البري الوحيد الذي يصل العراق بسورية ولبنان إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، بما يضمن تحقيق استراتيجية إيران، التي عبّر عنها قادتها مرات، وتعد البحر الأبيض المتوسط عمق إيران الاستراتيجي غرباً.
ثورة السوريين والعراقيين على الاستهداف الإيراني يمكن وصفها بـ"ثورة الكفاية"، في مواجهة مشروع يستهدف طيفاً واسعاً من العالم العربي، بهويته وثرواته وشعوبه، وثورة الكفاية تلك باتت بحاجة إلى دعمٍ عربيٍ على صيغة فرض عين، على اعتبار أن انكسارها سيعني فتح الأبواب واسعاً أمام الخطر الإيراني، للتغلغل في باقي العالم العربي.
ماذا ستفعل إيران في لحظة انتكاسة استراتيجية تعرّض لها مشروعها؟ وكيف ستدير الهجوم المضاد عسكرياً وسياسياً؟، الشواهد تؤكد أن إيران لا تملك المرونة الكافية للتعامل مع هذه التطورات، فهي إما أن تخضع المشرق لسياستها، أو فالتقسيم الذي صنعت خطوطه باحترافية عالية، خياراً للخطة "ب" في مشروعها. كيف سيتصرف الغرب المعني بالدرجة الأولى؟ ثمة احتمالان لهما حظوظ ومؤيدون، أن يترك الإقليم للاستنزاف والاهتراء وانتظار النتائج، أو تكون فرصة يجب التقاطها لتحجيم إيران، وإنهاء المأساتين السورية والعراقية.

 


 

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".