توصيف جيوبولتيكي لمشرق عربي جديد

توصيف جيوبولتيكي لمشرق عربي جديد

26 يونيو 2014
+ الخط -


لا يميل خبراء الجيوبولتيك إلى استخدام مصطلح "المشرق العربي"، في التقسيمات الجغرافية المتداولة، ويفضلون تسميات أخرى رائجة، مثل "الشرق الأوسط"، بمختلف مدلولاته وحيزه وحدوده، ذلك أن دول المشرق العربي القائمة تعتبر دولاً مهمة جيوسياسياً، تتأثر بالدول الفاعلة، أو الناشطة جيوستراتيجياً خارجه.
بدايةً، ولتجنب الالتباس في المسميات ومدلولاتها، لا بد أن نوضح ما نستخدمه في هذا المقال من مصطلحات. فالدول المهمة جيوسياسيّاً (المحاور الجيوسياسية) هي التي تستمد أهميتها، ليس من قوتها، أو دافعها الذاتي، بل من أهمية موقعها الجغرافي، أو من الظروف الإقليمية. أما الدول الناشطة جيوستراتيجياً، فهي التي تمتلك القدرة والإرادة القومية لممارسة القوة أو النفوذ، بحيث تتجاوز حدودها، في سبيل إحداث تغيير في الوضع الجيوسياسي القائم. وبمعنى آخر، فإن الدول الناشطة جيوستراتيجياً دول مؤثرة، في حين أن الدول المهمة جيوسياسياً دول متأثرة.
تأسيساً على ما سبق، فإن تفاعلات وأدوار الدول المهمة جيوسياسياً في المشرق العربي (السعودية في منطقة الخليج، سورية في بلاد الشام، العراق) كانت، ومنذ تأسيسها، مرتبطة بدول ناشطة جيوستراتيجياً، وبقوة اللاعبين الجيوستراتيجيين إقليمياً (تركيا، إيران، ومصر سابقاً) ودولياً (فرنسا وبريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، أميركا وروسيا بعد الحرب الباردة).
وبالتركيز على التوزان الإقليمي، وبنظرة تحليليّة سابقة وراهنة للتموضعات الجيوسياسية في المشرق العربي، نجد أن محددات التوازن ومقوماته في هذا الإقليم المضطرب باستمرار، كانت تفرض وجود محورين؛ يعبر كل منهما عن تحالف دولةٍ، أو اثنتين، من دوله الرئيسية، مع دولةٍ، أو دولتين إقليميتين خارجه. ووفقاَ للمعادلة السابقة "الضابطة" للتوازن الإقليمي، من المتعذر أن تجتمع الدول الرئيسية في المشرق العربي في محور واحد، مع دولةٍ، أو دولتين، خارجه، والعكس صحيح.

ثمة شواهد كثيرة جداً يمكن الاستدلال عليها في اختبار المعادلة السابقة، ولا يتسع المجال لسردها جميعاً، من أبرزها؛ حلف بغداد، والصراع على سورية في الخمسينيات، الوحدة بين سورية ومصر 1958، الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، حرب الخليج الثانية، غزو العراق 2003، اغتيال رفيق الحريري 2005، حرب لبنان 2006، حرب غزة 2008 ..إلخ.  وفي جميع الحالات السابقة، منعت المعادلة الضابطة وجود قوة إقليمية وحيدة ورائدة، تستطيع أن تفرض توجهاتها الجيوستراتيجية بشكل كامل على الآخرين، مما ساهم في تحقيق استقرار هش، تتخلله أزمات تعيد ترتيب الإقليم من جديد، وفق صيغ توازنية مختلفة عن سابقتها.

الربيع العربيّ: اختلال التوزان والتحالفات

أطلقت شرارة في تونس الربيع العربيّ خارج المشرق العربي وتفاعلاته، إلا أنه، ولعوامل عدة، كالتشابه في بنية الأنظمة العربية، والخصائص المشتركة للشعوب العربيّة (يميل أنصار المدراس الوضعية في العلاقات الدولية، ولاسيما الواقعيين، إلى تجاهل تأثير هذه الخصائص، ويركزون على الدولة- النظام كوحدة متماسكة)، انتقلت العدوى إلى حدود المشرق العربي في مصر، ولاحقاً إلى محاوره الرئيسية في سورية والعراق. أخلّت تطورات الربيع العربي بالصيغ التوازنية، وكل أشكال التفاهمات والتحالفات القائمة. ليس هذا فحسب، بل سمحت ظروف الثورات في سنوات 2011-2012 لدول صغيرة خارج معادلة التأثير الإقليمي الفاعل، مثل قطر، بلعب دور مهم ومؤثر، يفوق في فاعليته المحاور التقليدية.
خرجت مصر المنشغلة بترتيب أوضاعها الداخلية، بعد ثورة 25 يناير، من دائرة التأثير الإقليمي، فانفضّ عقد محور "الاعتدال"، والذي كان يجمعها والسعودية لمواجهة ما يسمى "محور الممانعة" المكوّن من إيران وسورية وحزب الله. وبينما كانت إيران تستعد لترسيخ دورها ونفوذها في المشرق العربيّ، بالتزامن مع ترتيبات الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، اندلعت الثورة السوريّة، مهددة مشروع إيران وطموحاتها الإقليمية، وإنجازاتها الاستراتيجية قرابة عقد. أما تركيا التي أعادت إدراج المشرق العربي في قائمة أولوياتها الجيوستراتيجية، بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، فتأثرت سلبياً في الثورة السورية عند انطلاقتها، لأنها عرقلت مساعيها إلى تطوير علاقتها مع دول المشرق العربي، وفي مقدمتها سورية، بالتركيز على الجانب الاقتصادي والعوامل الثقافية المشتركة، من دون مراعاة طبيعة النظام، وشكل الحكم القائم. سعت تركيا إلى احتواء الحركة الاحتجاجية في سورية، من خلال وساطات عدة لدى النظام، للبدء بعملية سياسية إصلاحية، تأخذ بالاعتبار المطالب الشعبية، لكن مساعيها فشلت أو أفشلت، مما فرض عليها في منتصف سبتمبر/ أيلول 2011 تغيير مقارباتها، والمطالبة برحيل النظام.
تلاقت تركيا والسعوديّة في مسعى إطاحة النظام السوري، وتحجيم دور إيران، لكن الأخيرة حافظت على مسافةٍ فاصلةٍ لهواجسها من مساعي تركيا إلى "تعويم" تجربتها في المنطقة العربية، والاستثمار في أحزاب الإسلام السياسي، لاسيما بعد وصول بعضها إلى سدة الحكم، كما حصل في مصر وتونس.
لطالما نظرت السعودية بعين الريبة إلى الدور التركيّ في المنطقة، فهي، وعلى خلاف الدور الإيراني، غير معتادة على وجوده. كما أنها، وبحكم طبيعة نظامها ونوعية خطابها السياسي، لا تمتلك الأدوات المؤثرة لمواجهته. لم تكن السعودية قادرةً على مواجهة الثورات العربية، وتداعياتها الجيوسياسية السلبية عليها خلال عام 2011 و2012، فقد كانت منشغلةً بتحصين بيتها الداخلي، وإخماد الحرائق الجانبية المحيطة بها (البحرين وعمان) مخافة امتدادها إليها. سعت السعوديّة إلى احتواء الربيع العربي، من خلال الاستثمار في الأنظمة الملكية القائمة، منطلقة من فهم (لم يثبت مدى صحته وخطئه حتى الآن) يتمثل في أن الملكيات أكثر استقراراً وشرعية، وأن الجمهوريات أكثر عرضة للثورات الجذرية الشاملة. لكن هذا النهج، وإن حقق لها نتائج داخلية، فإنه عجز عن إيجاد محور إقليمي، تسد من خلاله الخلل الاستراتيجي الناجم عن غياب مصر، واندفاع قوى إقليمية، كإيران وتركيا، للاستئثار بسورية (الثورة)، والعراق (حكومة نوري المالكي)، والذي انضم رسمياً، بعد الانسحاب الأميركي عام 2011، إلى المحور الإيرانيّ. وفي خطوة استباقية لاستقرار الصيغ التوازنية الجديدة، دعمت السعودية، بل خططت، لانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 في مصر، والذي أطاح الإخوان المسلمين، والتجربة الديموقراطية الناشئة. أما في سورية، فقد نجحت السعوديّة في إيصال قوى وشخصيات سياسية، قريبة منها، إلى قيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة أركان الجيش الحر، وأضحت ذات تأثير كبير على القرار السياسي للمعارضة السوريّة. وعلى الرغم من ذلك، ظلت سورية تشكل "معضلة" للسعوديّة، كونها غير قادرة على كسب المعركة فيها، لاسيما بعد التدخل الإيراني المباشر، وعبر الأحزاب والميليشيات التابعة لها (حزب الله والميليشيات العراقية)، والذي ساهم في قلب موازين القوى لصالح النظام وإيران.

ساهمت التطورات السابقة في إرساء صيغ توازنية جديدة في المشرق العربي، أمكن التعبير عنها من خلال تفاعلات محورين رئيسيين متنافسين، هما:
• المحور الإيرانيّ: ويضم، بالإضافة إلى إيران، سورية والعراق ولبنان. وتتأتى الأهمية الجيوسياسية لهذا المحور من أنه متصل جغرافياً، ولكل ساحة من ساحاته أهمية خاصة، تجعله محط اهتمام القوى الدولية والإقليمية. وبناء عليه، فإن حل مشكلاته يقتضيّ التفاهم، أولاً وأخيراً، مع الدولة الفاعلة والمؤثرة فيه، وهي إيران.
• المحور السعودي – المصري: ويضم مصر والسعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء قطر وعُمان). تبنع أهميّة هذا المحور من أنه يمتلك القدرة على التأثير في أي ساحة من ساحات المحور الإيرانيّ، مما يدخل إيران في حرب واضطراباتٍ دائمة، تضطر فيها لاستنزاف مقدراتها الاقتصادية والعسكريّة، من دون أن تحقق أهدافها على المدى الطويل. وإلى جانب هذه الوظيفة الأساسية، يعد هذا المحور في منزلة رأس الحربة في مشروع الثورة المضادة في الوطن العربي.
وخارج هذين المحورين، توجد دول مهمة، مثل قطر وتركيا، تمتلك الإرادة والرغبة في لعب دور فاعل وتعظيم المصالح والنفوذ، لكن التموضعات الجيوسياسية والتوازنات الجديدة لا تمكنهما من ذلك في المدى القصير والمنظور.

انتقام الجغرافيا: الفرص والمخاطر 

على الرغم من زيادة حدة التنافس والاستقطاب الإقليمي بين المحورين السابقين، إلا أن الفاعلين الجيوستراتيجيين الدوليين (نقصد أميركا وروسيا) رغبوا في المحافظة على التوازنات القائمة، ومنع انهيارها أو تغييرها حاليّاً، ويمكن الاستشهاد بالحالتين، السوريّة والمصرية، للدلالة على ما سبق. تمتلك سورية موقعاً جغرافياً مهماً، يمكنها من التأثير في محاور جيوسياسية وأزمات إقليمية ذات أبعاد دولية كالعراق ولبنان وفلسطين والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام. وفي الحقيقة، كان الموقع الاستراتيجي المهم "خصماً" للثورة، وللشعب السوريّ، فعلى الرغم من تفاقم المأساة الإنسانية، نتيجة الصراع الداخليّ وانسداد أفق الحل السياسي، امتنعت الولايات المتحدة عن التدخل والتأثير الفاعل، لتغيير موازين القوى لصالح المعارضة السوريّة، أو إجبار النظام على قبول صيغة الحل السياسي التي جرى التوافق عليها في اجتماع جنيف 30 يونيو/ حزيران 2014. فالاستراتيجية الأميركيّة في سورية، وبحسب ما أعلنه رئيس هيئة الأركان الأميركي، مارتين ديمبسي، أمام الكونغرس 19 أغسطس/آب 2013، قامت على أساس عدم التدخل في ما تعتبره "حرباً أهلية داخلية" قد تستمر سنوات طويلة، والعمل، ما أمكن، على حصر الصراع في حدود الإقليم السوري، ومنع تمدده وتهديده حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (الأردن، إسرائيل، تركيا). في المقابل، تولت روسيا مهمة تعطيل أي تصعيد ضد النظام السوري في المؤسسات الدولية، واستخدمت حق النقض "الفيتو" أربع مرات في ثلاثة أعوام. وفي مصر، كانت روسيا من أوائل الدول التي اعترفت بالانقلاب، وكذلك فعلت الولايات المتحدة، عندما أبدت مرونة ورغبة في التعامل والتعاون مع الرئيس المصري الجديد، عبد الفتاح السيسي، على الرغم من انتقاداتها المتكررة في قضايا حقوق الإنسان والحريات.
من جانب آخر، وفي وقت أعاد فيه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في زيارته الرياض 30 مارس/آذار 2014 التأكيد على التزام بلاده بأمن الخليج، وحرصها على العلاقات "التاريخية" مع السعودية، كانت المفاوضات الأميركية (الغربية) مع إيران بشأن ملفها النووي قد وصلت إلى مراحل متقدمة. والجدير بالذكر، أن إيران عندما تفاوض الغرب، لا تفاوض من أجل برنامجها النووي، بل تفاوض على الدور الإقليمي، فالبرنامج النووي الإيراني، لم ينشأ لإنتاج أسلحة نووية واستعمالها، بل لحماية النفوذ والدور الإقليمي، والتواصل مع "الأعداء" وإجبارهم على الإقرار والتسليم به.
كانت المعطيات السابقة تبشر بحالة من الجمود والمراوحة في المكان، على صعيد الخيارات والتوجهات الجيوستراتيجية للفاعلين الجيوستراتيجيين الإقليميين والدوليين. لكن المفاجأة حدثت خارج جميع التوقعات، فخلال أيام معدودة، تدهور الوضع الأمني في العراق بطريقة دراماتيكية، إثر هجوم شنته فصائل عراقية، في مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ونجحت في الوصول إلى أسوار العاصمة العراقية بغداد، بعد أن نجحت في السيطرة على مدنٍ عراقية عدة، كالموصل، وتكريت، صلاح الدين، الأنبار .. إلخ.
جاءت أحداث العراق لتشكل "انقلاباً جغرافيّاً" على صيغ التوازن القائم، وعلى الإرادة الدولية والإقليمية لإبقائها، وحملت، في طياتها، مشهداً معقداً ضبابياً، لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه وآثاره وتداعياته المستقبلية. انتقمت الجغرافيا من الحدود القائمة بين سورية والعراق، فلأول مرة، يحصل تواصل جغرافي كامل بين مساحاتٍ واسعةٍ في كلا البلدين، من دون أي رقيب أو سلطة سياسية ضابطة على طرفي الحدود. انتقمت الجغرافيا، ولو مؤقتاً، من إيران ومشروعها، وخططها الراهنة المستقبلية. انتقمت الجغرافيا، ولو مؤقتاً، للثورة السوريّة، ليس لأن خط الإمداد (بغداد – دمشق) قطع نهائياً على النظام السوريّ، أو لأن الميليشيات الشيعية، التي أوغلت في جرائمها، وساهمت مع حزب الله في قلب الموازين الميدانية رأساً على عقب، بدأت بالمغادرة والانسحاب باتجاه العراق، بل لأن الصراع  السوري لم يعد ممكناً ضبطه وحصره في حدوده، وتحول إلى بركان هائج، لا يهدد التوازنات القائمة في المشرق العربي وحسب، بل يهدد النظام الإقليمي والدوليّ برمته، ويفرض على القوى الكبرى، والدول المؤثرة، تغيير حساباتها واستراتيجيتها، من أجل إنهائه وتطويق آثاره.
لكن انتقام الجغرافيا يمكن أن يكون كارثياً على دول المشرق العربي، إذا ما أساءت المحاور الجيوسياسية (السعودية) والفاعلين الجيوستراتجيين (تركيا) إدارة الأزمة، ولم تتنبه إلى المخاطر الراهنة المستقبلية، وفي مقدمتها خطر تقسيم العراق وسورية، وازدياد نفوذ الحركات المتطرفة، والحرب الطائفية طويلة الأمد. وبناء عليه، قد تتغير الخارطة الجغرافية للمشرق العربي مع تفكك محاوره الرئيسية (سورية والعراق)، وتتحول إلى كانتونات طائفية، وإثنية (كردستان العراق، المناطق الكردية في سورية). ولمواجهة ذلك، لا بد من إعادة صياغة التوازنات الجديدة في المشرق على أسس جديدة، خارج المحاور والتقسيمات السابقة، وهذا لن يحصل إلا بتوافق دول مجلس التعاون الخليجي فيما بينها، وتوحيد استراتيجيتها تجاه الأزمة السورية والعراقية، وتجاه إيران. وتمثل التطورات الجديدة في العراق فرصة لالتقاء مصلحي بين تركيا ومجلس التعاون الخليجي، لمواجهة التداعيات السلبية المحتملة للأزمة العراقية.
وبغياب هذا الالتقاء، ستكون إيران المستفيد الأكبر على المدى الطويل، لأن الولايات المتحدة، والتي تتجنب التدخل العسكري المباشرة، ستكون مضطرة للتفاهم معها، لملء الفراغ السياسي وضبط الفوضى، ومواجهة التنظيمات المتطرفة، مما يعني تسليماً وإقراراً أميركياً – غربياً بنفوذ إيران ودورها في المشرق العربي المقسم.

026670C0-1C24-4095-BCE5-FC31C709547D
حمزة المصطفى

كاتب وباحث سوري في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وسكرتير تحرير مجلة سياسات عربية. ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العليا. صدر له كتاب "المجال العامّ الافتراضي في الثورة السورية: الخصائص، الاتجاهات، آليات صناعة الرأي العامّ".