بحثاً عن أسباب "9 نيسان"

بحثاً عن أسباب "9 نيسان"

09 ابريل 2014

إسقاط تمثال صدام في بغداد في 9 نيسان (أ.ف.ب)

+ الخط -

لغز سقوط بغداد، قبل أحد عشر عاماً، ما يزال مبهماً، وما تزال الحقيقة الكبرى ضائعةً في ركام التفاصيل الصغيرة. بغداد لم تصمد في وجه الغزاة بضع ساعات، فيما صمدت قرية صغيرة في جنوب البلاد اسمها "أم قصر"، لا تزيد مساحتها عن بضعة كيلومترات، أكثر من أسبوعين. والشهادات التي أدلى بها عسكريون وسياسيون، والوثائق التي كشف عنها لم تكن كافية لإلقاء الضوء على الحدث، أو إشفاء الغليل. 
كبسةٌ على (غوغل) توفر لنا تلك الشهادات والوثائق، وتضعنا أمام ركام من تفاصيل صغيرةٍ، تنتظر من يجمع خيوطها، ويؤالف بينها، لكي يكتشف الحقيقة الأكبر التي أوشكت أن تضيع. 
ما قاله عسكريون ميدانيون كشف عن عدم وجود خطة عسكريةٍ فاعلةٍ لمواجهة الغزو، لا تخطيطاً ولا تنفيذاً: "دور القيادات العسكرية المحترفة كان هامشياً، إذ وضعت إدارة معركة بغداد تحت قيادة قصي صدام حسين، والذي لم يكن يملك أَي تأهيل عسكري. مناطق العراق الأخرى وضعت عسكرياً تحت إمرة قياداتٍ حزبيةٍ، ليست لديها خبرةٌ في أمور القتال والتعبئة والسلاح. الثقة كانت معدومة بين الجنود وآمريهم، وفي أولى الضربات الأميركية، اتضح فشل خطة الدفاع عن بغداد، وانهارت معنويات الجنود، وبدأ بعضهم الفرار. ومع تصاعد الضربات، فر أكثر من نصف المقاتلين من ساحات المعارك، تاركين أسلحتهم مبعثرةً على الطرقات. وترك قادةٌ عسكريون، أيضاً، مواقعهم، وانسحبوا إلى جهات مجهولة، وفعل ذلك قادة سياسيون أيضاً. وبعد أيام قليلة، ترك العراق إلى الخارج عسكريون كبار، ومسؤولون رسميون، بينهم وزراء تحت سمع الأميركيين وبصرهم، منهم من أقلته طائرات خاصة". 

 
ما رآه السياسيون، وبينهم بعثيون قياديون، يمكن اختصاره في شهادة قاسم سلام، وهو عضو القيادة القومية الذي رجح أَن سقوط بغداد، وهزيمة العراق، كانا بسبب ما أسماه "تلاعب" بعض القادة وتخاذلهم. ونعرف، لاحقاً، أن رغد، ابنة الرئيس صدام حسين، استبدلت كلمة "تلاعب" بكلمة "خيانة"، وقالت "إن أشخاصاً وضع (صدام) ثقته فيهم بالمطلق، كانت الخيانة الأساسية منهم". وأشار صدام نفسه، في واحدةٍ من رسائله التي بعث بها من مخبئه، إلى أنه لم يكن في وسع الأميركيين احتلال العراق لولا خيانة البعض. 
كان طارق عزيز الوحيد الذي تجرأ أن ينقل إلى صدام ما لا يسره. قال له إن الأميركيين مصرون على غزو العراق، وإن النظام سيهزم. القادة الآخرون، من سياسيين وعسكريين، زودوا صدام، خوفاً أو تزلفاً، بتقديراتٍ، يعرفون أنها كاذبة، عن قدرة العراق على تحقيق النصر وهزيمة الأعداء. وزير الخارجية، ناجي صبري، اعترف، بعد خراب البصرة، بأن هزيمة العراق كانت معروفة سلفاً، لعدم وجود تكافؤ في القوى والإمكانات بين القوات الأميركية والجيش العراقي، لكنه لم يصارح رئيسه برأيه!
ركام من التفاصيل الصغيرة، ركام من الأحداث الكبيرة، شهادات وشهادات، وثائق ووثائق.. كل هذا لم يكن كافياً لحل لغز سقوط بغداد، لكنه كشف، بوضوح، أن المشكلة كانت في نهج الحكم نفسه، وفي طريقة صدام حسين في إدارة الأزمة، منذ انفرد بقيادة الحزب والدولة، إثر (مذبحة الرفاق) في يوليو/ تموز 1979. صدام بعدها ضمن احتكار القرار السياسي والعسكري له وحده، وضع كل السلطات تحت إشرافه المباشر، مهيمناً على كل الفضاءات الاجتماعية، ومكرساً مفهوم "الدولة الأمنية"، بدلاً من العمل على إيجاد "دولة مؤسسات"، تحترم المواطن، وتؤمن له حقوقه. أكثر من ذلك، أصبح لما يقوله قوة القانون، وتعرضت حياة العراقيين للانتهاك، وشمل ذلك البعثيين أنفسهم، والذين سرت بينهم أجواء المخاوف والشكوك، بعد أن أصبح الحكم والحزب، والبلد كله، تحت قبضة يد واحدة، تتحرك وفق نزعاتها وأهوائها. وبالتأكيد، بعض هذه النزعات والأهواء كان شريراً. 
قرارات خاطئة اتخذها صدام، ساهمت في عزلة العراق، وإضعاف قدراته، وإلحاق الأذى بشعبه، وبالمشروع القومي النهضوي الذي كانت حركة البعث من أبرز دعاته، منها قرار الحرب على إيران، فقد كان الأسلم أن يتجنب العراق كل ما يؤدي إلى صراع عسكري مع جيرانه. صحيح أن لطهران مشروعها المتعصب والمنغلق، لكن العراق، في المقابل، كان قادراً على لجمه، وجعله ينكفئ داخل حدوده، لو امتلكت قيادته قراءة موضوعيةً واعيةً للمتغيرات المحتملة، وعملت على إرساء علاقة حسن جوارٍ استراتيجية، مع بلدٍ لا يمكن شطبه من الخارطة، أو نقله إلى قارة أخرى. وقل مثل هذا عن عملية غزو الكويت التي أضرت، ليس بعلاقات الأخوة بين الشعبين الشقيقين فحسب، بل أساءت إلى الحركة القومية، والعمل العربي بشكل عام، وأحدثت أحقاداً من الصعب نسيانها على مدى أجيال. 
هذه السياسات الهوجاء، بالتأكيد، هي التي ساهمت في فتح الثغرات للتدخل الأجنبي المباشر في شؤون العراق، والذي تكرس بالاحتلال الدموي الشرس في التاسع من نيسان من العام  2003. وبالتأكيد، أيضاً، إِن عقوداً طويلة من القمع والشمولية وغياب الرأي الآخر لا يمكن أن تقود العراق إلا إلى مزيد من الخراب والدكتاتوريات، ولا يمكن أن تفضي إلا إلى ما هو أسوأ. 
من السهل، إذن، أن نجد الحل الواضح للغز المبهم الذي عاش معنا أحد عشر عاما: كيف سقطت بغداد، ولماذا هزم العراق؟  
  

   
   

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"