انتصرت غزة وسقط رهان المستبدين

05 سبتمبر 2014
+ الخط -

في وقت ينشغل فيه الفلسطينيون في إحصاء ما تبقى من أطرافهم على قيد الحياة، بعد حرب داميةٍ استمرت 51 يوماً، ارتكب فيها الاحتلال الإسرائيلي أبشع صور القتل والإبادة، ينشغل الرأي العام العربي في الإجابة على أسئلة موبوءة، تحمل نوايا خبيثة، ترتكز حول هوية المنتصر، ومعايير النصر والهزيمة. أسئلة تعوّدنا عليها بعد كل صدام مع إسرائيل، تهدف إلى بث روح الهزيمة في الضحية، والتقليل من قيمة إنجازاتها عقاباً نفسياً على ممارسة حقها في الدفاع عن نفسها تحت وطأة العدوان، هذا الحق الذي تكفله الشرائع الدولية من دون إعطاء الحق لصاحبه بممارسته على الأرض، وهو الموقف الذي تتبناه أنظمة عربية عديدة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية.

إن الأصوات التي تتساءل اليوم عن معايير النصر والهزيمة، هي الأصوات نفسها التي علت قبل 47 عاماً، مع اختلاف المعطيات والمخرجات بين الحربين، لتخفّف من وطأة الهزيمة إبان النكسة، على اعتبار أن إسرائيل خرجت للحرب، آنذاك، بهدف تحقيق مشروعها التوسعي بين النيل والفرات، وكونها لم تحتل سوى الجولان وسيناء والضفة الغربية، فهذا يحسب إنجازاً لنا. وبالتالي، كان يجب علينا، كعرب، أن نبتهج ونصفق للهزيمة، بدل أن نجلد ذاتنا، لأن إسرائيل لم تحقق أهدافها التي خرجت من أجلها، مع العلم أن إسرائيل لم تخرج للحرب عام 1967، إلا لإخضاع العرب، وإجبارهم على قبولها، والاعتراف بها تمهيداً لإخراجهم من دائرة الصراع للاستفراد بالفلسطينيين.

قد يبدو التقارب بين الحالتين منطقياً لأعضاء حزب التكييف والتبريد الذين يبحثون، دائماً، عن موطئ قدم لمبرراتهم الانهزامية وآرائهم الهدامة. ففي الحالة الفلسطينية، لا مجال للحديث عن الكم العددي للضحايا معياراً للنصر والهزيمة، لأننا لا نتحدث، هنا، عن مواجهة عسكرية بين جيشين نظاميين، بل عن فصائل وحركات مقاومة، قوامها طلاب ومهندسون وأطباء، يدافعون عن حقهم وحق أهليهم في الحياة. يدافعون عن حصتهم من الشمس والماء والهواء، وعن حقهم في القوت والدواء، كأي شعب آخر، يتمتع بأبسط الحقوق الإنسانية.

نعم، هذه دوافع المقاومة الفلسطينية التي تم تقييدها ومحاصرتها في قطاع غزة، ومن ثم قصفها بأعتى أنواع الأسلحة، إلا أنها لم تستسلم، ولم ترفع الراية البيضاء، بل دافعت عن شرفها وكرامتها، وقاومت بالحد الأدنى من مقومات الصمود، فأفشلت المخطط الإسرائيلي، وأجبرت الاحتلال على قبول شروطها لوقف إطلاق النار الذي لم تسع إليه، وإنما سعى إليه الجانب الإسرائيلي، وهو الجانب المُعتدي، فتم فتح المعابر الحدودية، وتوسيع مساحة الصيد البحري، وتقليص الحزام الأمني الخانق. وعلى الجانب الآخر، انخفضت شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى أدنى معدلاتها، بعد أن فشل مجدداً في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وبدا ذلك واضحاً في استطلاعات الرأي التي أجرتها الصحافة الإسرائيلية، وأظهرت أن 60% من الإسرائيليين فقدوا شعورهم بالأمن، بعد انتهاء الحرب، وأن 85% منهم أقرّوا بفشل العدوان في تحقيق أهدافه.

انحدار أخلاقي وانزلاق غير مسبوق في الخطاب العربي الرسمي، الذي لم يكتف بموقف المتفرج، بل تجاوز ذلك إلى جلد المقاومة الفلسطينية، والتشكيك بنياتها وأهدافها المشروعة، وظهر ذلك جلياً في مواقف أنظمة عربيةٍ عمدت إلى استخدام السلطة الرابعة أداة لتشويه معسكرات الممانعة، من أجل إيجاد مناخ سياسي، يضمن لها التنصل من واجباتها القومية تجاه القضايا العربية التي تتعارض مع وضعها الاستراتيجي والتزاماتها الدولية.

كان أجدى للسائلين عن هوية المنتصر، أن يسألوا عن جدوى تسليح الجيوش العربية التي تحتل مراكز متقدمة في التصنيف الدولي لأقوى الجيوش، عتاداً وذخيرة، في العالم. كان الأجدى لهم السؤال عن دور جامعة الدول العربية، التي لم تكلف نفسها بعقد جلسة طارئة، واكتفت بعبارات الإدانة، شأن أي مؤسسة حقوقية. السؤال الذي يجب أن يطرح هنا: ما هو الدور الذي تقوم به جامعة الدول العربية؟ وما جدوى وجودها إن لم تستطع قراراتها أن توقف قطرة دم واحدة تنزف في فلسطين؟ السؤال الذي يجب أن يطرح: ماذا قدمت الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية؟ وما الدور الذي قامت به في أثناء الحرب على غزة؟ هكذا تكتمل الصورة، وهكذا يبدو المشهد واضحاً، من دون انتظار مفتي الديار، ليخبرنا أن ما حدث في غزة جريمة حرب!

مريحيل
مريحيل
علي أبو مريحيل
كاتب فلسطيني، عمل مراسلاً صحفياً في الصين لعدد من المؤسسات الإعلامية العربية. لديه العديد من المؤلفات والأبحاث والمقالات والتقارير الصحفية المرئية والمكتوبة.
علي أبو مريحيل