المجلس الانتقالي اليمني وما بعد سقطرى

03 يوليو 2020
+ الخط -

 

استولت قوات المجلس الجنوبي الانتقالي (اليمني) على جزيرة سقطرى، وفي طريقها إلى السيطرة على مساحات إضافية في أبين وحضرموت الساحل، بينما تجري المفاوضات على قدم وساق في الرياض لتشكيل حكومة شراكة مع المجلس الانتقالي، وتطبيق اتفاق الرياض المتعثر في مرحلةٍ جديدة لتقويض الشرعية التي قامت الحرب في اليمن لأجلها. الحرب التي تشكلت في أثنائها قوتان أساسيتان على الأرض، الحوثي في الشمال والمجلس الانتقالي في الجنوب، مع استعصاء بعض المناطق عن السيطرة، مثل مأرب شمالًا وشبوة جنوبًا، بينما يكافح حزب الإصلاح في الحفاظ على ما تبقى له من مناطق وجود في تعز، وبدرجة أقل في مأرب.

ما تشكل في الحرب هو نتاج لقوة السلاح التي احتكم إليها الحوثي في البدء، وأضفت عليه شرعية، باتفاق السلم والشراكة الذي وقعه الجميع إثر سقوط صنعاء مباشرة، وما تلاه تبعاتٌ لمنطق الاحتكام للسلاح، على الرغم من أن الساحة السياسية كانت مفتوحة، والأدوات السلمية كانت متاحةً، وقادرة على التغيير، بعكس ما هو حاصل الآن. ويتشكل حاليا واقع جديد في اليمن ظهرت ملامحه في الشمال، ولم تتضح معالم سياساته في الجنوب بعد، وإنْ بدأت المؤشرات تظهر من قياداته، عبر تصرّفاتها وخطاباتها، وكلها تنذر بأن المجلس قد ينجح عسكرياً، لكنه قد يفشل سياسياً مثل الحوثي، خصوصا إذا ركن لقوته، وقرّر الحفاظ على مكتسباته بالسلاح فقط.

إشكالية تمثيل الجنوب لم يحسمها تشكيل المجلس الانتقالي كما يحاول مناصروه القول

إشكالية تمثيل الجنوب لم يحسمها تشكيل المجلس الانتقالي كما يحاول مناصروه القول، فجنوبيون كثيرون، بمن فيهم المؤمنون بالانفصال، مقتنعون بأن المجلس يمثل حكم الغلبة لمنطقتين في الجنوب، الضالع ويافع، ولا يمكن تغطية هذه الإشكالية بالقول إن الشعب الجنوبي واحد، وهو شعار يبدو جميلًا، رفعه الحوثي بالقول إن اليمنيين شعب واحد، والغرض دائماً من كلمة الواحدية في الحالتين التعامي عن تباينات المجتمع الطبيعية، وحق الجميع في التمثيل السياسي من دون احتكار من طرف واحد. ولا يصمد هذا الخطاب الوطني الإقصائي طويلاً أمام واقع التعدّد، مثلما حدث في معركة شبوة التي حاول المجلس التوسع فيها عسكرياً، وكان الأسوأ من الهزيمة العسكرية هناك هو إصرار المجلس على أنها هزيمة أمام الشمال وحزب الإصلاح والقاعدة، متعامياً عن حقيقة أن القوى القبلية في شبوة رفضت توسّعه العسكري.

كان في وسع المجلس ألا يغترّ بمنطق القوة العسكرية، وأن يدخل المحافظة بتفاهمات سياسية واجتماعية تضمن لها تمثيلًا سياسيًا جيدًا ونصيبًا محليًا من ثروتها البترولية. ويمكن القول إن هذه المعركة كشفت أولى المؤشرات الخطيرة داخل المجلس، وهو الانجرار إلى منطق السلاح، وتجاهل منطق التفاهمات الاجتماعية والسياسية، وهذا المسار إذا استمر فيه المجلس فهو قادر على فرض سيطرته عسكرياً على كل الجنوب أو معظمه، لكنه لن يمكنه من الحكم والسلطة طويلاً.

مؤشرات خطيرة داخل المجلس، تتمثل بالانجرار إلى منطق السلاح، وتجاهل منطق التفاهمات الاجتماعية والسياسية

إشكالية الاستناد إلى الدعم الخارجي بثقةٍ مطلقةٍ وتبعيةٍ قد تسلبه الإرادة الذاتية، وهو أمر خطير قد يحول الجنوب اليمني إلى ساحة صراع إقليمي، فالإمارات لا يهدد وجودها في الجنوب السعودية التي تميل إلى التوصل إلى تفاهماتٍ مع شريكها الإماراتي، ويمكن فهم العلاقة بينهما بأنها صراع في إطار التنافس على المصالح، لم يصل إلى حد الخصومة، بل يأتي التهديد الأكثر خطورة من تدخلاتٍ إقليمية أخرى ومتعدّدة في الجنوب.

ليس لدى العالم مصالح فعلية في اليمن، وعادة تدخله تحكمه فكرتان: الأولى، دفع الضرر، مثل منع انتشار جماعات مسلحة تهدد الأمن الإقليمي أو الدولي، مثل تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). وهذا تدخلٌ يأتي بمنطق رد الفعل. الثانية: لأي تدخل في اليمن هو الموقع الجغرافي، فالشمال هو جوار السعودية. لذا من يتدخل فيه، إما السعودية لتأمين حدودها حسب "تصوراتها" أو دول تريد الإضرار بالسعودية من خلال تهديد خاصرتها. أما الجنوب فموقعه أكثر أهمية؛ فهو الساحل الطويل والجزر المهمة والممر الدولي الاستراتيجي، وقد يكون هذا سببًا لتدخلات كثيرة فيه، خصوصا مع تنافس دولي وإقليمي في الحضور والسيطرة على المنافذ المائية والتحكّم بالممرّات البحرية المهمة.

ويذكر أن أول تدخلات إيران في اليمن دعمها فصائل من الحراك الجنوبي في بداية نشاطه عام 2007 حتى بداية الحرب الحالية، إضافة إلى انعكاس الخلاف الخليجي - الخليجي على الحرب في اليمن، وانزعاج سلطنة عُمان من الحضور الإماراتي على حدودها، والساحة مفتوحة لتدخلات إقليمية ودولية عديدة.

الانفصال في اليمن عملية أكثر صعوبة من الوحدة، وخيار سياسي احتمال فشله وارد بقوة

انكشاف الساحة للخارج مرهونٌ بعدة أمور، عدم قدرة السلطة على استيعاب الجميع، الارتهان لقوة خارجية، وهذا أمر يختلف عن التحالف، تميز بينهما استقلالية القرار والإرادة، إضافة إلى الفراغ السياسي والسخط الشعبي الذي قد يجلبه سوء الإدارة لملف الخدمات والمصالح للمجتمع، وهي مهمةٌ ليست هينةً دائماً في اليمن؛ لأنه بلد مدمر من الحرب، وبنيته التحتية ضعيفة، إذا وجدت، إضافة إلى تغلغل ثقافة الفساد، وضعف كل آليات الرقابة، سواء القانونية أو المجتمعية أو السياسية.

تظل الإشكالية الأكبر هي علاقة المجلس الانتقالي الجنوبي بالشمال، وهي علاقة حتمية، إن لم يكن بحكم التداخل الاجتماعي والتاريخي، فبحكم منطق الجغرافيا الثابتة والتي لا تقبل الشك والجدل. لا يجوز لهذه العلاقة أن تكون ضدّية، وتنجر لخطاب تحاول بعض قيادات المجلس تأسيسه، خطاب كراهية يسعى إلى تحميل الشمال كل ما حل بالجنوب، وما هو أيضا حاصل حالياً. إذا كان هذا المنطق مفهومًا في السابق عندما كانت السلطة في صنعاء تتمركز فيها القوة والقدرة، لكنه أمر محرج حاليًا، فإذا كان الشمال لا يزال قويًا وقادرًا على تقويض خطط المجلس، وهو يمتلك قوته العسكرية وقاعدته الشعبية، فهذا إما حالة عجز واستلاب نفسي وعقلي، أو ضعف لا يمكن معالجته.

سيطرت تصوّرات الضحية والمظلومية على خطاب الحراك في الماضي. وهذا كان متوقعًا ومفهومًا في مرحلة الضعف وغياب القدرة العسكرية، لكن التخلص منه الآن صار ضرورياً، ليس فقط لأنصار المجلس، بل أيضاً لتصحيح إشكالية العلاقة مع الشمال على أسس طبيعية من دون فتح المجال لاستهداف مواطنين من أصول شمالية، بسبب التحريض المستمر، فمن يؤسس وجوده على المظلومية والتحريض، لا يستمر طويلاً، ويظل أسيراً لأوهامه ومخاوفه، ويفقد ثقته بنفسه وثقة الآخرين به.

ما يسعى إليه المجلس في تشكيل دولة مستقلة لم يعد قرارًا بيد حكومة موجودة في صنعاء، بل بيد رئيس وحكومة يغلب عليها الجنوبيون، وهم مقيمون في الرياض التي صارت شريان بقائهم، ولولا دعمها لما أمكنهم الاستمرار. بالتالي هو قرار إقليمي ودولي بدرجة أساسية، أكبر إشكالياته أن كل القرارات الأممية المتعلقة باليمن تؤكد على وحدة اليمن، كما أن مخاوف أوروبا من النزعات الانفصالية المتصاعدة، تسببت في تأسيس بنية تشريعية معقدة في القانون الدولي، تصعّب من عملية تقسيم الدول. لذا ما يطمح إليه المجلس من تقسيم لليمن لم تعد تعرقله قوى داخلية، بل قوى إقليمية ودولية.

الانفصال في اليمن عملية أكثر صعوبة من الوحدة، وخيار سياسي احتمال فشله وارد بقوة، إذا تم التعامل معه بالاندفاع نفسه، وبعدم التخطيط وقلة الوعي بالمخاطر المحتملة، بسبب الاستغراق في الشعارات العاطفية والخطابات الشعبوية، هذا غير رفع سقف التوقعات عالياً وبعيداً عن المنطق والواقع. يزيد من الأمور سوءاً أن الوضع الإقليمي هو الأسوأ على الإطلاق، مع صعود عالمي لسياسة الهويات الصغيرة على حساب المشاريع السياسية الكبرى، إضافة إلى غياب واضح للقيادات السياسية القوية والمؤثرة، كظاهرة عالمية عموماً ويمنية خصوصاً.