الخطاب الشعبي واللعب في الهوامش

الخطاب الشعبي واللعب في الهوامش

08 يوليو 2014
+ الخط -


ظلّ الخطاب السياسي الشعبي هامشياً لفترة طويلة، باعتباره خارجاً عن سياق المؤسسة الرسمية، وهناك رأي يصفه بالخطاب المنفلت، بحكم كونه منتجاً خارجاً عن المعايير الشرعية للمؤسسة السياسية، وعلى الرغم من هذا التهميش القصدي، ظل الخطاب الشعبي يمارس حقوقه الشرعية، بل شكل صداعاً مزمناً ومستداماً لرؤوس الأنظمة الحاكمة.

مشكلة هذا الخطاب ليست في لغته، أو في نصه وإحداثياته، بل تكمن المشكلة الحقيقية له في عملية تأويله وتحليله، واختلاف آليات فهمه وإدراكه. لكن المدهش في الخطاب السياسي الشعبي أنه، عقب الفعاليات السياسية الكبرى من ثورات أو انتفاضات، يتحول إلى معيار يمكن من خلاله التنبؤ بمشاهد سياسية واجتماعية مستقبلية.

بقي الخطاب الشعبي يعاني من الإقصاء والتمييز، وتعددت مسمياته، وحينما حاولت الأنظمة السياسية الرسمية تهميش حركة الخطاب السياسي الشعبي وعزله عن الفكر السائد للمؤسسة الرسمية، استطاع هذا الخطاب حجز مقعد دائم ضمن المشهد المجتمعي، والاستمرار موجوداً على الألسنة وفي الآذان أيضاً.

هيّأ أصحاب الخطاب السياسي الشعبي، أنفسهم، على أن يكونوا على الدوام هامشيين، واكتفوا بجعل نصهم السياسي هو المركز والمحور الرئيس، غير مبالين بالتهميش الذي ينال أسماءهم وكنههم الشخصي، وربما هذا الاكتفاء بدور المهمَّش هو الذي مكّن الخطاب السياسي الشعبي من الاستمرارية والبقاء، ومن ثم التوالد من أجل وقوف رمزي أمام أي حاكم أو نظام سياسي رسمي.

ويتسم الخطاب الشعبي بالتشفير، أو باللغة المشفرة، لأنه عادة ما يحاول الفكاك من شَرَك الاستلاب الأمني، والتركيز على الدلالة والإيحاء الرمزيين، من دون الاعتماد على الأسلوب المباشر في العرض، فإن الخطاب الرسمي يتقيد باستخدام مفردات لا تقبل التأويل، أو اختلاف دلالة التلقي، الأمر الذي دفع البعض إلى الحيرة في تأويل وفهم النصوص المرتبطة به التي تكتفي طوعاً بالتلميح دون التصريح.

يمثل الرئيس المصري المعتقل، محمد مرسي، أبرز الأمثلة على استخدام اللغة الرمزية في خطابه، فضلاً عن استخدامه مؤشرات رمزية استثنائية، حفل بها خطابه السياسي الذي من المفترض أنه رسمي، يصدر من مؤسسة الرئاسة، لكنه فضل استخدام لغة خاصة، تشير إلى فكر ظل سنوات بعيدة يعمل في الظل، ومن خارج المؤسسة الرسمية. لذلك، لم يستطع الرئيس المعزول وقتها التخلي عن الشفرة الخاصة بلغة تنظيمه. في حين كان عليه استخدام لغة مباشرة، بحكم موقعه رئيساً للجمهورية.

تبدو مشكلة أخرى عند تناول النص السياسي الشعبي، وهي ما يسعى إليه، غالباً، المحسوبون على النخبة التنظيرية، والتي أصابت مصريين كثيرين باللغط والجدال، هذه المشكلة هي قراءة المتحول بالثابت، والمتحول هو الخطاب الشعبي الذي لا يستقر ولا يهدأ، ولا يميل إلى استعمال مفردات سياسية ثابتة، بل طالما أدهشنا هذا الخطاب بتنويعات لغوية مثيرة، فالذين يستخدمون آليات الثابت في التحليل يدعون أنهم يمتلكون وحدهم حق المعرفة السياسية، وربما الحقيقة أيضاً، في حين أن المهمشين يعمدون في خطابهم إلى امتلاك حق الإحساس بنبض الشارع.

لم يكن أصحاب الخطاب السياسي الشعبي مجافين للواقع المشهود يوماً، لكنهم يعتبرون أنفسهم دوماً رجع الصدى، وصورة حية لاستكناه مشاعر المصريين البسطاء الذين لا تصل أصواتهم إلى أصحاب القرار السياسي الرسمي، وربما غفل علماء الاجتماع، على الرغم من دراساتهم وأبحاثهم الكثيرة عن البحث الدقيق لتحليل دوافع هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم كتابة خطاب سياسي شعبي، بغير تذييل لأسمائهم أو إعلان هويتهم.

وعلى الرغم من أن دول العالم تدغدغ مشاعر مواطنيها وعواطفهم بدعاوى الديمقراطية، والإيمان بالتعددية السياسية، والنفور من الإقصاء والتمييز، إلا أن ثمة فوارق بينية تكشف عن التمايز بين الخطابين السياسيين، الرسمي والشعبي، فبينما يبدو الخطاب الرسمي فوقياً، فإن الخطاب السياسي الشعبي أشبه برياضة تسلق الجبال، بل هو خطاب يشبه مقولة الروائي العالمي، جابرييل جارسيا ماركيز "المتعة تكمن في تسلق الجبال وصعودها، وليس البقاء والاستقرار على قمة الجبل"، مما يجعلنا نقبل طوعاً سرَّ بقاء تفاصيل الخطاب الشعبي السياسي على ألسنة المواطنين فترة أطول من الخطاب الرسمي، لأنه يسير ببطء، ويشحذ الذهن بخطى ثابتة، ويصدر عن شعور الجماهير وحالة تكوّن وعيها الجمعي.

أما دلالة المعنى في الخطابين، الرسمي والشعبي، فهي أيضاً متمايزة، فالمعنى في كليهما يعاني من الاستهلاك والانتهاء، إذا ارتبط بحادثة سياسية أو اجتماعية معينة، وهناك دوماً حركة بين الدال والمدلول، سواء كان الخطاب رسمياً أو شعبياً، وإذا كان النظام السياسي الرسمي يتمتع بالقبول الشعبي، ويتسم بالقوة والسيادة، فإنه يستخدم خطاباً سياسياً مباشراً بغير تورية أو مواربة للمعنى، أما الخطاب الشعبي فكثير ما يلجأ إلى تورية المعاني واستعمال رموز بهدف الحفاظ على هوية أصحابه.

إذن، كيفية القراءة وآليات إنتاج الخطاب تمنحه شرعيته وخلوده، ومن ثم بقاءه فترة طويلة، والقدرة على الحراك السياسي، إضافة إلى قوة صاحب الخطاب نفسه، ومدى تمتعه بالقبول السياسي العام، وأيضاً، مدى قدرة الخطاب السياسي على قبول الآخر، والانفتاح عليه بغير قيود، والسرعة في المباشرة عند تناول الأحداث الجارية، وبما أن كلا الخطابين يشكل نقيضاً للآخر، فكلّ منهما مسكون بالآخر، في مفرداته وحركة معانيه.

avata
avata
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)