الاحتلال عن بعد.. الأفضل اقتصادياً ( 2-2)

الاحتلال عن بعد.. الأفضل اقتصادياً ( 2-2)

18 مايو 2014
البنك المركزي المصري تحت حراسة الجيش (بلومبرج/أرشيف/Getty)
+ الخط -

 أستهل حديثي عن اقتصاديات العروبة بموضوع في غاية الاهمية بالنسبة للاستقرار الاقتصادي والنقدي العربي، ألا وهو البنك المركزي العربي حيث نادت بعض الاقلام الاقتصادية العربية والمصرفية الحرة على هامش احد مؤتمرات اتحاد المصارف العربية بإنشاء البنك المركزي العربي، ودار نقاش علمي ومستنير بين المتخصصين العرب وانتهوا الى ان انشاء هذا البنك موضوع سابق لأوانه بوقت كبير، وذلك نظراً للاختلاف والتباين الشديد بين الخصائص الاقتصادية والمالية لاقتصاديات الدول العربية من حيث:

أولاً: اختلافات في الهيكل الاقتصادي

حيث تختلف الهياكل الاقتصادية لاقتصاديات الدول العربية، فنجد دول الخليج العربي الست، بالإضافة الى الجزائر وليبيا والعراق، يعتمد الاقتصاد فيها اعتماداً مفرطاً على البترول، وينعكس ذلك على شكل الهيكل الاقتصادي المتركز بنسبة تجاوز 90% على قطاع النفط، ويؤثر ذلك في موازنات هذه الدول حيث تأتي معظم الموارد السيادية من هذا القطاع، كما يؤثر ذلك ايضاً في هيكل الموازين التجارية لها حيث تتركز الصادرات في البترول وتستورد كل شيء.

وبرغم تحقيق هذه الدول فوائض مالية في موازينها التجارية، الا انها تعاني من اختلال اقتصادي حاد بالمعنى الاقتصادي الحقيقي للفائض والعجز في الميزان التجاري وليس بالمنطق التجاري والمالي المجرد، كما تقل حدة اختلال الهيكل الاقتصادي في كل من مصر وسورية والاردن ولبنان والمغرب وتونس حيث يتنوع الهيكل الاقتصادي فيها نسبياً مقارنة بالدول العربية البترولية، الا انه يظل رغم ذلك التنوع النسبي غير متسق وغير متوازن، وتبقى الدول محدودة الهيكل الاقتصادي او الدول الاقل تنوعاً، وهي اليمن والسودان وموريتانيا والصومال وفلسطين.

 

ثانياّ: اختلافات في النظم والايديولوجية الاقتصادية

 

حيث تتبني معظم الدول العربية نظام الاقتصاد الحر ولا سيما دول الخليج التي تتميز بالرأسمالية التجارية، وبعض الدول تتبنى نظام الاقتصاد المختلط، ولكن يغلب عليها الاقتصاد الحر مع بعض اللمحات الاشتراكية من حيث تواجد قوي للملكية العامة لبعض القطاعات الاقتصادية.
لكن عموماً، لا توجد دولة عربية تتبني نظاماً اقتصادياً اشتراكياً أو مغلقاً بالشكل التقليدي للنظام الاقتصادي الاشتراكي، حيث جميعها تتبنى نظام اقتصاد السوق، ولكن بدرجات مختلفة من الحرية الاقتصادية، او بعبارة اخرى، هي نظم اقتصادية رأسمالية مرقعة بعدة رقع اقتصادية اشتراكية للحد النسبي من تبعات شراسة الرأسمالية على الطبقات الفقيرة او الأقل فقراً في المجتمعات العربية.

 

ثالثاً: اختلافات حدة عجز الموازنة والدين العام الداخلي

 

يختلف عجز الموازنة من دولة عربية الى أخرى، وذلك باختلاف درجة اليسار المالي للدولة، حيث تسجل الدول النفطية دائماً فائضاً في موازناتها، ولكن في بعض الاحيان تسجل عجزاً طبيعياً أو طفيفاً ولكنه غير مزعج، وعادة ما يكون مستهدفاً لارتباطه بالتوسع الكبير في الإنفاق العام على البنية الاساسية الحديثة والمتطورة، ولكن تعاني باقي الدول العربية الأخرى، بخلاف الدول النفطية ولا سيما الخليجية منها، عجزاً دائماً ومزمناً في موازناتها، ومما أدى إلى تخطي الدين العام فيها الحدود الآمنة للدين العام حيث تجاوز الدين العام قيمة الناتج المحلي الاجمالي وخصوصاً مصر، في الوقت الذي يجب الا يتجاوز فيه الدين العام حاجز الـ 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا شك في أن العجز المزمن والدائم في الموازنة العامة يؤدي حتماً الى ارتفاع الدين العام بمرور الوقت ويؤدي كذلك إلى عدم قدرة الدولة على القيام بوظائفها بكفاءة، وإلى الافراط في الاقتراض الداخلي والخارجي معاً.

 

رابعاً: اختلافات حدة الدين العام الخارجي

 

تختلف حدة الدين العام الخارجي من دولة عربية الى أخرى، وذلك باختلاف حالة كل من الميزان التجاري والموازنة العامة للدولة، فدول العجز في الميزان التجاري، وهي تقريباً كل الدول العربية باستثناء الدول البترولية العربية، تعاني من عجز هيكلي ودائم في الميزان التجاري مما يؤدي الى قصور ونقص دائم لديها في العملات الصعبة، الأمر الذي يؤدي الى اقتراضها الدائم من الخارج لقروض بالعملات الاجنبية لتغطية وارداتها المتزايدة من الخارج، ولمّا كانت الاقتصاديات العربية اقتصاديات مستهلكة واستيرادية بدرجات متفاوتة في المقام الاول، بسبب عجز الجهاز الانتاجي فيها عن انتاج السلع والخدمات بالكم وبالكيف التنافسي الذي يرضي الاسواق، فإن الحاجة ستظل متزايدة للعملات الصعبة.

كذلك يزداد الوضع تعقيداً، وذلك بالنسبة إلى الدول ذات العجز الكبير في الموازنة والذي يؤدي الى تفاقم الدين الداخلي، والاسوأ من ذلك أن بعض الدول تحصل على قروض خارجية لتغطي جزءاً من عجز الموازنة أي لتمويل الإنفاق العام وتمويل الاستهلاك، وهنا يختلط الدين الداخلي بالخارجي وينسف القواعد الائتمانية السليمة للاقتراض السيادي.

 

خامساً: اختلافات حدة عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات

تختلف حدة عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات من دولة عربية الى أخرى، وباستثناء الدول البترولية العربية، تعاني الدول العربية الأخرى من عجز هيكلي ودائم في الميزان التجاري، وعجز دائم أيضاً في ميزان المدفوعات الدولية، ويشكل هذا العجز مع العالم الخارجي ضغطاً مستمراً على اسعار صرف العملات العربية المحلية امام العملات الاجنبية الرئيسية القابلة للتحويل كالدولار الاميركي واليورو والجنية الاسترليني والين الياباني وما الى ذلك من عملات أجنبية ذات مقبول دولي عام.

ويؤدي هذا الوضع الى الانخفاض الدائم والمنتظم لأسعار صرف العملات العربية للدول ذات العجز في ميزان المدفوعات أمام العملات الاجنبية الرئيسية القابلة للتحويل من جهة، ومن جهة أخرى يؤدي الى ارتفاع مستمر في معدلات التضخم فيها، ومن ثم تراجع مستويات المعيشة للفئات محدودة الدخل أو اصحاب الدخول الثابتة وهم السواد الاعظم من الشعوب في هذه الدول، لذا كان التغيير والربيع العربي ضرورة حتمية لمن يقرأ بعمق ورؤية الوضع الاقتصادي والمعيشي للفئات المهمّشة اقتصادياً واجتماعياً في عالمنا العربي الكبير.

 

سادساً: اختلافات حدة التخمة والفقر المالي

 

تختلف حدة التخمة المالية والفقر المالي بين الدول العربية، فالدول العربية البترولية تتميز بالتخمة المالية، وتختلف حدة هذه التخمة المالية في ما بينها حيث تبلغ ذروتها في دول الخليج القليلة السكان، وتقلّ تدريجياً ونسبياً في الدول الخليجية ذات التعداد السكاني الاكبر اعتماداً على معيار متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، وتقلّ حدة هذه التخمة المالية في الدول العربية البترولية غير الخليجية كالعراق والجزائر وليبيا، ولكنها تظل قائمة بدرجة او بأخرى، وتسميتها هنا بمصطلح باليسار المالي بدلاً من التخمة المالية تكون أكثر تعبيراً ودقة ودلالة.

وتعاني باقي الدول العربية، بخلاف كل من دول التخمة المالية واليسار المالي، من فقر مالي بيّن يدفعها دائماً الى تعويض هذا الفقر بالقروض والمعونات من بلاد خلق الله، وتختلف حدة الفقر المالي من دولة عربية الى أخرى حيث يبلغ ذروته في السودان وموريتانيا والصومال واليمن ويكون بدرجات متوسطة في كل من مصر وتونس والمغرب والاردن ولبنان.

 

سابعاً: اختلافات الأنظمة المصرفية

 

تختلف الأنظمة المصرفية بين الدول العربية اختلافاً كبيراً، فبعض الدول العربية لديها انظمة مصرفية حديثة ومتطورة تواكب التطورات المصرفية العالمية مثل دول الخليج العربي ولبنان ومصر والاردن، وهذه الدول تسمح بالتواجد المصرفي الأجنبي بشكل كبير في أراضيها، وباقي الدول العربية لديها انظمة مصرفية أقل تطوراً وأقل انفتاحاً على العالم الخارجي مثل ليبيا والعراق والسودان وسورية، ثم تأتي بعد ذلك الدول العربية ذات الأنظمة المصرفية التقليدية أو الورقية كاليمن والصومال وموريتانيا والسودان.

كذلك تختلف الأنظمة المصرفية في الدول العربية من حيث حجم الصيرفة الاسلامية فيها، حيث تتواجد البنوك الإسلامية في جميع الدول العربية ولكن حجم هذا التواجد يختلف من دولة لأخرى، غير أنّ حجم الصيرفة الإسلامية في تزايد مستمر في أعقاب الأزمة المالية العالمية سواء على المستوى العربي او الدولي، وتحتل الصيرفة الاسلامية حوالي ثلث السوق المصرفية في العالم العربي وتتركز في دول الخليج العربي واليمن والسودان ومصر وتونس.

ويختلف الفكر والدور الرقابي للسلطات النقدية في الدول العربية باختلاف طبيعة ودور الجهاز المصرفي فيها، ففي الدول ذات الفوائض المالية الكبيرة، وهي مجموعة الدول البترولية، لا تبذل السلطات النقدية فيها جهداً كبيراً للمحافظة على استقرار أسعار صرف عملاتها الوطنية أمام العملات الأجنبية الرئيسية، لأن حجم الفوائض المالية الكبيرة فيها - ولاسيما الفوائض بالعملات الأجنبية – يعمل على استقرار أسعار الصرف فيها تلقائياً لأن الأسواق تكون متشبعة بالعملات الأجنبية، وبالتالي يندر حدوث طفرات حادة فيها، مما يسهّل من دور السلطات النقدية في تحقيق الاستقرار النقدي في هذه الدول.

 أما في الدول ذات العجز المالي، وهي تقريبا الدول العربية غير البترولية، فإن السلطات النقدية تضطلع بدور وجهد كبيرين لتحقيق الاستقرار النقدي فيها وغالباً ما تفشل في ذلك، ليس بسبب عدم كفاءتها، بل بسبب الضغوط التي يمارسها العجز في كل من الموازنة وميزان المدفوعات وأعباء خدمة الدين الثقيلة، حيث يشل ذلك قدرة السلطات النقدية على تحقيق الاستقرار النقدي فيها.

 ولا شك في أن مثل هذه الاختلافات الاقتصادية والمصرفية الحادة بين الدول العربية تحول دون انشاء البنك المركزي العربي، هذا من الناحية الاقتصادية المجردة، ولا يمكن للبنك المركزي العربي أن يقوم بوظائفه في رسم السياسة النقدية وفي تحقيق الاستقرار النقدي والمصرفي وفي السيطرة على معدلات التضخم في الاقتصاد العربي في ظل هذه الاختلالات والتباينات الكبيرة من المنظور التكنوقراطي البحت والمجرد، وقد علل البعض وعوّل على تجربة الاتحاد الاوروبي الذي سمح بانضمام أعضاء غير مؤهلين مالياً، ولا وهي اليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا 4 PIGs اقتصادياً ولا مصرفياً إليه مثلاً، وهي عبارة عن الأحرف الأولى باللغة الإنجليزية لمجموعة الدول الاوروبية السابقة ذات الأداء الاقتصادي والمالي والمصرفي الأضعف داخل كتلة اليورو، وذلك بخلاف قبرص التي تمثل آخر الازمات والانهيارات المصرفية داخل كتلة اليورو حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

ولكن هل نتخلي عن حلم البنك المركزي العربي إزاء هذه المعوقات الفنية والتي قد تبدو مانعة ومبددة لهذا الحلم؟؟؟.

 بالطبع لا، لأن ما لا يُدرَك كلّه لا يترك كلّه، ولكن علينا أن نبدأ.

ومع هذا يمكننا بناء اللبنة الأولى في بنيان البنك المركزي العربي بجعل البنوك المركزية العربية بنوكاً تبادلية تعمل بعضها لبعض بمثابة بنوك احتياطيات فيدرالية أو بنوك تسويات دولية اقليمية، بحيث تودع البنوك المركزية للدول ذات الفوائض المالية الضخمة جزءاً كبيراً من احتياطياتها الدولية بالعملات الاجنبية لدى البنوك المركزية للدول العربية ذات العجز المالي من جهة.
ومن جهة أخرى تتبادل البنوك المركزية العربية إيداع جانب كبير من الغطاءات النقدية بالعملات الاجنبية والذهب للنقد المحلي المصدر لديها لدى بعضها بعضاً، وذلك بذات الأسس وبذات معدلات الفائدة والقواعد والمعايير العالمية الحاكمة لإدارة الاحتياطيات النقدية الدولية، وبذلك تنشأ آلية اقليمية ودولية تضاهي الآلية العالمية التي تتخذ من الأسواق المالية العالمية مراكز لها مثل نيويورك ولندن وفرانكفورت وطوكيو.
كذلك تقضي هذه الآلية النقدية العربية على جانب كبير من التبعية النقدية والمالية لمراكز المال العالمية السالفة الذكر وتمهد الطريق لميلاد مراكز مالية عربية عالمية تكسر من حدة تبعية العالم بأسره لمراكز النقد والمال العالمية.

وتخفف هذه الآلية المقترحة من القروض الخارجية للدول العربية، كما ستحد من اعتماد بعض الدول العربية على المعونات الخارجية المشروطة كالمعونة الأميركية اللعينة في سوق التسول الدولي، كذلك ستحد من تحكم وتغلغل مؤسسات التمويل الدولية بشروطها المجحفة وبأجنداتها السياسية والتوغل في عالمنا العربي الأبي، حيث ستضخ هذه الأموال في اقتصاديات الدول العربية وتحقق آثاراً اقتصادية جيدة سواء للدول العربية متلقية ودائع الاحتياطيات الدولية أو للدول العربية صاحبة أو مالكة ودائع الاحتياطيات الدولية.

نحن العرب لدينا المال الوفير في بعض البقاع، ولدينا الشح المالي في بقاع أخرى، ونضع اموالنا في مراكز المال العالمية لنزيد من احتكاراتها وسطوتها علينا وعلى مقدرات العالم بالتبعية المالية والنقدية والمصرفية التي نستطيع كسرها بفكر اقتصاديات العروبة.

ترى كيف سيكون الوضع الاقتصادي والسياسي لمصر قلب العروبة اذا ما أودعت البنوك المركزية العربية جانباً من احتياطياتها الدولية (وليكن 100 مليار دولار) بذات معدلات الفائدة و شروط الإيداع العالمية في البنك المركزي المصري لإدارتها؟.

ستكون مصر أقوى وأجدر وأنفع للعرب جميعاً لكبح جماح الأطماع الفارسية والصهيونية والإمبريالية في أراضينا وثرواتنا.

والمبدأ الاقتصادي الأول لاقتصاد العروبة والمستنبط من هذا المقال هو تبادلية الاحتياطيات النقدية الدولية وغطاءات النقد العربية بين البنوك المركزية العربية، وذلك بذات القواعد والمعايير الفنية العالمية الحاكمة لإدارة الاحتياطيات النقدية الدولية في البنوك العالمية.

المساهمون