أين هرب العيد... منّا نحن السوريين؟

أين هرب العيد... منّا نحن السوريين؟

24 سبتمبر 2015
تحوّل كل شيء إلى مقبرة (Getty)
+ الخط -
لربما قد ذهب إلى غير رجعة، ذلك الطقس الاحتفالي بالعيد، فلا تكبيرات تبعث النشوة في قلوب تستعدّ لاستقبال الفرح، ولا ثياب جديدة نلبسها بعد ليلة طويلة جداً من الأحلام بارتداء ثياب ينبغي أن تغفو معنا، في أسرّتنا.. أو في أحلامنا، اليوم.. أصبح عيدنا بلا شمس..


في الثامنة من عمري، انتابني هذا الشعور بالفقد؛ لا عيد بعد فقد من تحب، لم يكن عيداً عادياً، ذلك اليوم الأول للعيد، والذي جاء بعد رحيل والدي بعدة أشهر. يومها جلست وحيداً في حديقة منزلنا تحت الشجرة لأختبئ من تكبيرات العيد، وصوت الأطفال الفرحين بثيابهم الجديدة، معلنين يوما للفرح وللحياة..

قالت لي أمي حينذاك: "سيفرح أبوك عندما تفرح، وقد يبكي إن عرف أنك تبكي" لكن الطفل الذي كنته راح يفكر في معضلته الحزينة" كيف لي أن أفرح وأبي تحت التراب"؟!

هي معادلة الطفل العادي، في الزمن اليومي الذي يموت فيه كل يوم أحبة لأشخاص، ويعلنون طقوس الحداد.. لم يكن يوماً غير مألوف، الكل يفرح ويضحك، لم يكن يشاركني أي طفل ذلك الحزن الذي تبدّد مع مرور الأيام، فالحياة عجلة سريعة التقلبات. أنا الطفل الذي بكى يوماً على أبيه حزناً وكمداً، ثم عاد إلى الحياة، واستردّ ذلك الشعور الهارب بالفرح، ونسي أنه ثمّة أطفال آخرون، كانوا يعيشون طقس الحزن -الذي عايشه قبلاً- على فقد أحبة لهم!

في زمن ما، كان طقس الموت الذي ألفناه رفاهية كبيرة، فالحزن الذي يشاركك إياه الآخرون، حتى ولو كان من خلال كلمات التعزية، يخفف من فداحة المصاب الذي حلّ بك.. لذلك الموت رفاهية العزاء والدفن.

للميت قبر، ولأهله عزاء وكلمات المواساة، عبر كرنفال اجتماعي، كنا نحسبه حزيناً، لكن هذا الحزن الكبير تحول إلى فكرة أسطورية، تجسّدها ذكريات تعود بنا إلى أمسيات العزاء الطبيعي.

لم تعد زيارة المقابر متاحة كما كان دأبنا.. فالمقابر أصبحت على امتداد المدى، في أمكنة قصية، تحوّل كل شيء إلى مقبرة، لم يعد بوسعنا زيارة أحبتنا في يوم ذكرى، لنبثهم عجزنا، وقلة حيلتنا، وبؤسنا..

البحر.. وطريق الهجرة إلى أوروبا.. والمنافي التي هربنا إليها تحولت إلى مقابر.. الأنقاض تحت براميل الحقد العبثية .. البيوت.. الأشجار.. والدفن الجماعي بعد كل مجزرة يومية؛ كلّها تحولت إلى مقابر.. لم يعد للسوري قبره المنفرد..

صور عابرة لتلك التي باتت تسمى حياة.. صورة الطفلة التي تغسل حذاءها بالماء من وحل الشتاء، وغبار الصيف، وأنقاض الدمار، وسموم الأسلحة التي تعشش في الصدور.. وهي تبحث عن فرح عابر، بحذاء ممزق، لكنه نظيف من آثار الجرائم اليومية.. طفلة تجعل العيد أحد اهتماماتها، في وحل الخيمة التي تسكنها منذ أربع سنوات عجاف.. هو حلم السعادة المؤجلة وفرح النجاة من موت محتوم.. قد تكون تلك الطفلة قد أظهرت ابتسامتها للكاميرا، لتقول بصمت العيون: "ما زلت على قيد الحياة الهامشية، لكنني أتحرك، وجميع أجزاء جسدي معي"! .. هي تحتفي بحذاء كامل يمكن أن تلبسه بقدمين تركضان به، بعيداً عن مخيم، كي لا تشعر بحزن من لا يستطيع لبس الحذاء كاملاً.. هي تعيد ذاكرتها عندما تنظف حذاءها وتقرّ بداخلها أن الحذاء الذي ألبسه بمفردي، قد يكون لطفلين فقد كل واحد منهما ساقه في احتفال المجازر..

مازالت كلمات أمي تحفر وجداني وذاكرتي، هل حقاً سيفرح من ماتوا عندما يشاهدون أطفالهم يحاولون استعادة العيد؟ هل للفرح مكان بعد الفقد الأبدي؟ نحاول لملمة أشلاء الذكريات كما نفعل في لملمة أشلائنا المهاجرة، وتلك التي طحنت تحت الأنقاض، لنصنع فرحاً بطعم الحزن الأبدي، فالمكان مفقود.. والزمان بعيد عنا بُعد من نحب، والحياة التي نعيشها بين احتمالين.. فرح في غربة، وموت في وطن.. بعد كل هذا..أين هرب العيد ..منا نحن السوريين؟

(سورية)

المساهمون