أمن النظام ضد أمن الدولة

أمن النظام ضد أمن الدولة

12 ابريل 2014

القذافي تخلى عن صواريخ طويلة المدى لحماية نظامه

+ الخط -

دأبت الأنظمة العربية على اختزال الأمن القومي، أَمن الدولة، في أَمن النظام: أَمن العائلة الحاكمة في الملكيات، وأمن الأقلية الاستراتيجية في الجمهوريات، ليغيب بذلك مفهوم الأمن القومي عن القاموس الأمني العربي، ما أَوجد دولاً منكشفة استراتيجياً. وعوض أَن تحقق الأنظمة العربية الشوكة حيال الخارج، حققتها إزاء الداخل بقهر شعوبها. هكذا، قامت الدولة العربية على آلةٍ قمعية، تسمح للنظام بالاستمرار، بغض النظر عن المسوِّغات السياسية والأيديولوجية لبناء الشرعية، المتآكلة أصلاً، لأنها مبنيةٌ على تصورٍ مختلٍّ للسياسة ولإدارة الشأن العام.
امتد هذا التصور للأمن القومي، المختزل في أمن النظام الحاكم، إلى منظومة الدفاع الوطني التي تحولت إلى جهازٍ للدفاع عن النظام. ولم يتردد بعضهم في التفريط في المنظومة الدفاعية الوطنية، للبقاء في الحكم. هكذا، تسبب غياب الديمقراطية، ليس فقط في "خصخصة" الأمن القومي للدولة العربية، بل، وأيضاً، في التضحية به لإنقاذ الأنظمة الحاكمة.


لدينا ثلاثة نماذج في العالم العربي فاضحة، للتضحية بالأمن القومي للدولة، في سبيل البقاء في الحكم. لكن، حتى هذا لم يشفع لأصحابه الذين فقدوا أمن الدولة، وفقدوا أمنهم كحكام. وتمت العملية بنزع التسلح الأحادي الجانب، على الرغم من الخطاب بشأن بناء القوة العسكرية لحماية الدولة، ودرء أي عدوان خارجي. وربما إذا كان في القول إن العرب لا يقرأون إجحاف كبير في حق هؤلاء القوم، فإن القول يصحُّ على حكامهم الذين لا يقرأون، ولا يستخلصون العبر من التاريخ. ما حدث لصدام، تكرر مع القذافي، وقد يتكرر مع الأسد.
أول نموذج في هذا الإطار، هو نموذج صدام حسين. بعد خطيئته الاستراتيجية بغزوه الكويت، قبل بنزع تسلح العراق، وتجريده كاملاً من أية إمكانات في مجال أسلحة الدمار الشامل. فعلى الرغم من كل ما قيل عن بناء قوات عسكرية مقتدرة، وعن ضرورة إيجاد توازنٍ استراتيجي في المنطقة (مع إسرائيل وإيران)، ليس فقط في مجال الأسلحة التقليدية، بل وأسلحة الدمار الشامل أَيضا، وما صرف من أموال، وما ارتكب من أخطاء في حق الأشقاء، ومن قمع لإسكات أي صوتٍ معارضٍ في الداخل، فإن الغلبة كانت، دائماً، لأمن النظام على أمن الدولة. قبل صدام نزع سلاح العراق، وتجريده من كل إمكاناته، لتأمين نظامه، والبقاء في الحكم. ولم يشفع له هذا لدى الولايات المتحدة التي، بعدما تأكدت من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، ومن استعداد صدام للتضحية بكل شيء للبقاء في الحكم، احتلت العراق، وأَتت على نظام صدام حسين الذي أُعدم.
الثاني هو نموذج القذافي. هرول في خضم الحملة الأميركية لغزو العراق، للاتصال بالقوى الغربية، لضمان أمن نظامه، بالتضحية بأمن الدولة الليبية. إنها صفقة إعادة تأهيل النظام وتبييضه. لكن، تجري الرياح الاستراتيجية بما لا تشتهي السفن التسلطية. فلضمان أمن نظامه، واستمراره، وقع القذافي في ديسمبر/كانون الأول 2003 صفقةً مع الولايات المتحدة وبريطانيا حول برنامج أسلحة الدمار الشامل الليبي، وهو، في واقع الحال، متواضع للغاية. والتزم بموجب الاتفاق بتخليه عن ذلك البرنامج، وبالتخلص من الصواريخ البالستية التي في حوزة ليبيا، والتي يفوق مداها 300 كلم، كما التزم بعدم البحث عن حيازتها مستقبلاً. في المقابل، يُعاد تأهيل نظامه ويُضمن بقاؤه. هكذا، تمت التضحية بأمن ليبيا القومي في مقابل أمن النظام الحاكم... فالقوى الغربية التي تدخلت في ليبيا كانت تعلم أن ليبيا لم تعد تملك صواريخ متطورة قد تضع قواتها في خطر. فالقذافي الذي قبل بقيود على تسلح بلاده حمايةً لنظامه، ذهب ضحية منطقه؛ حلفاؤه بالأمس هم من هاجموه، وساعدوا على إسقاط نظامه، وعلى قتله.
الثالث نموذج بشار الأسد. دأبت سوريا، منذ عقود، على التشديد على ضرورة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، مطورةً أسلحة كيماوية، بعد أن استعصت عليها حيازة أسلحة نووية. وأَصرّت في مفاوضات لجنة الأمن ونزع التسلح المنبثقة عن المفاوضات المتعددة الأطراف في الشرق الأوسط، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، على هذا التوازن في ظل الحصرية النووية الإسرائيلية، وعلى حقها في امتلاك أسلحة الدمار الشامل، لضمان أمنها القومي، خصوصاً في غياب ترتيبات أمنية إقليمية. ولم تبد أي استعداد للتخلي عنها. لكن، ها هو النظام، اليوم، يتخلى عنها، ومن دون مقابل استراتيجي إقليميا. ولكن، لسببٍ يعتبره أهم من أمن سوريا كلها، أمنه الخاص.
وعليه، جاء هذا التنازل الاستراتيجي للنظام السوري بدون أية ضمانات أمنية، فهو، طبعاً،  قد يزيد من أمد النظام، ولكن مؤقتا فقط، لأن الحرب الأهلية متواصلة، والسوابق التاريخية (العراق وليبيا) تشير إلى أن كل نظام يبيع الأمن القومي من أجل أمنه يفقد، في نهاية المطاف،  كل شيء، وتلقى رموزه حتفها... هكذا شرع النظام السوري في نزع تسلح أُحادي الجانب للبقاء في الحكم، مضحياً بأمن سوريا كدولة، والتي سيكون موقفها التفاوضي في مفاوضات مستقبلية حول الحد، أو تدمير الأسلحة غير التقليدية في المنطقة، أضعف، لأنه لن يكون لديها ما تقايض به تنازلات الطرف الآخر. وفي نهاية الأمر، ومهما تكن هوية "المنتصر" في الحرب الأهلية في البلاد، فالدولة السورية هي الخاسر الأكبر، لأنها ستفقد قدراتها العسكرية، وتكون منهكة القوى اقتصادياً واجتماعياً، حالها حال العراق وليبيا…