أسرى فلسطين جذوة النضال وسيف المفاوضات

أسرى فلسطين جذوة النضال وسيف المفاوضات

17 ابريل 2014
من فعاليات الأسرى أمام سجن شطا الاسرائيلي (أحمد غربلي/GETTY)
+ الخط -

وقع أكثر من 800 ألف فلسطيني في الأسر، ومروا في مختلف معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، لفترات متفاوتة في مختلف مراحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ترصد المؤسسات الفلسطينية الرسمية أرقام الأسرى منذ العام 1967، غير أنه لا معطيات محددة عن عدد الفلسطينيين الذين وقعوا في الأسر بين النكبة عام 1948 والعام 1967.

ويمثّل ملف الأسرى الفلسطيني متلازمة للقضية الفلسطينية على امتداد تاريخها؛ فلا بيت فلسطينياً في الأراضي المحتلة عام 67 لم يكتو بنار الأسر بعد النكسة، في حين حاول الاحتلال دوماً عند كل مواجهة وعملية فدائية تصل إلى أراضي فلسطين 48، أن ينهيها بأسر من يبقى على قيد الحياة من الفدائيين؛ من الشهيدة دلال مغربي وأفراد خلية دير ياسين في مارس/آذار 1978، إلى شهداء عملية الباص 300. وتمثلت عملية الباص رقم 300 باختطاف حافلة إسرائيلية والمطالبة بتحرير 500 أسير فلسطيني، واتهمت في تنفيذها خلية تابعة لـ"الجبهة الشعبية" عام 1984، غير أن الجبهة نفت مسؤوليتها. وقام جيش الاحتلال وجهاز "شاباك" بإعدامهم بعد أسرهم.

 وعلى مرّ الصراع والحرب والمقاومة، واصل الاحتلال تكريس موازين القوى لصالحه، رافضاً الاعتراف بالأسرى الفلسطينيين، سواء الذين وقعوا في الأسر خلال قيامهم باختراق حدود الأراضي المحتلة، أو الذين اعتقلهم الاحتلال (بعد العام 67)، كأسرى حرب كي لا يترتب على ذلك اعترافهم بحقوقهم التي تكفلها المواثيق الدولية، وفي مقدمتها معاهدات جنيف المختلفة.

وحين كانت الثورة الفلسطينية في أوجها قبل الخروج من لبنان ودخول مسارات التسوية، أمدّت النضال الفلسطيني بمزيد من الأسرى، كانوا ضريبة العمل الفدائي ضد قوة الاحتلال. وخرقت إسرائيل كل الأعراف الدولية، وتعاملت مع هؤلاء الأسرى كـ"مخربين" ولاحقاً كـ"سجناء أمنيين".

كانت هالة من البطولة تلف حياة الأسير وعائلته، باعتباره جندياً في صراع ضد الاحتلال، لكن وسائل وسبل متابعة أمور وظروف حياة الأسرى الفلسطينيين، ظلت مقصورة على ضمان تمثيلهم أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية للاحتلال من خلال محامين إسرائيليين تقدّميين، برزت بينهم فيليتسيا لا نغر، وأمنون زخروني، وليا تسيمل، قبل أن يدخل جيل المحامين من فلسطينيي الداخل الى الصورة. واعتمدت الثورة وأهالي الأسرى لسنين طويلة على تقارير منظمات دولية، وفي مقدمتها الصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية "أمنستي"، لمتابعة حالات الأسرى.

ومثّلت أول عملية تبادل، صفقة الأسرى الأولى في العام 1979 مع "الجبهة الشعبية ـ الأمانة العامة" بقيادة أحمد جبريل، تغييراً في مسار الحركة الأسيرة. وبات بعدها نظام صفقات التبادل، الطريق الوحيد تقريباً، قبل أوسلو، لتحرير الأسرى الفلسطينيين ومبادلتهم بجنود إسرائيليين أو بجثامين جنود الاحتلال. وتبعت صفقة 1979، صفقة تبادل أخرى عام 1983 بين حركة "فتح" والاحتلال الإسرائيلي، ثم أخرى نفّذتها الجبهة الشعبية، القيادة العامة عام 1985، ثم صفقات حزب الله، بعد تحرير جنوب لبنان، وأخيراً صفقة "وفاء الأحرار"، التي أبرمتها حركة "حماس"، لمبادلة الجندي الإسرائيلي الأسير لدى المقاومة جلعاد شاليط عام 2011.

وفي مفاوضات أوسلو طرحت منظمة التحرير الفلسطينية ملف الأسرى باعتبارهم أسرى حرب، غير أن الجانب الإسرائيلي رفض التعامل مع الملف بهذا المنظور. وسعى الى استغلال مسألة تحرير الأسرى على دفعات لانتزاع تنازلات سياسية. وهو المنطق نفسه، الذي تنتهجه حكومة بنيامين نتنياهو اليوم في مسألة إنجاز الدفعة الرابعة وتحرير أسرى ما قبل أوسلو. في حين يجري إغفال قضية الأسرى الذين وقعوا في الأسر بعد أوسلو، وتحديداً خلال الانتفاضة الثانية وبعدها، والذين يصل عددهم اليوم إلى نحو 47750 أسيراً ومعتقلاً.

ولدى انعقاد مؤتمر أنابوليس عام 2007، وعدت إسرائيل، مقابل حضور المؤتمر والمشاركة فيه، بتحرير أكثر من ألف أسير فلسطيني، لكن تبين عند التحرير أن فترات محكومية الأسرى الذين تم تحريرهم، كانت على وشك الانتهاء، أو كانوا سجناء جنائيين دخلوا المعتقلات الإسرائيلية بناء على مخالفات جنائية. وتكرر الأمر بعد إبرام صفقة شاليط، عندما وعدت حكومة إيهود أولمرت الرئيس محمود عباس بتحرير صفقة كبيرة من الأسرى، لتعزيز مكانته في الأراضي المحتلة، بعدما زادت صفقة شاليط من شعبية حركة "حماس" في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. 

وفي ظل تعثر الدفعة الرابعة والأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو اليوم، تفيد المعطيات الرسمية الفلسطينية بوجود 4750 أسيراً فلسطينياً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم 3433 أسيراً من الضفة الغربية، و650 أسيراً من قطاع غزة، و525 أسيراً من القدس المحتلة، و142 أسيراً من أراضي عام 1948، والعشرات من المعتقلين العرب. ويعيش الأسرى كافة في ظل ظروف اعتقال قاسية، لا تخضع لاتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949.

واستُشهد أكثر من 200 أسير داخل سجون الاحتلال ومراكز التوقيف بين عامي 1967 و2012 نتيجة التعذيب والتنكيل بينهم. فيما استُشهد نحو 50 أسيراً بعد العام 2000.

لقد شكلت حياة الأسرى، وظروف اعتقالهم، مصدراً لحكايات البطولة والصمود داخل السجون الإسرائيلية، وفي أقبية التحقيقات. غير أنها كانت أيضاً، مصدر معاناة كبيرة لعائلاتهم، التي تعرضت للملاحقة والتنكيل بها من قبل سلطات الاحتلال. وتفننت الأخيرة في تعذيب الأهالي من خلال رفض السماح لهم بلقاء أبنائهم، ونقل الأسرى من سجن الى آخر ومنع رشح أي معلومات عنهم، مما زاد من القلق على المصير الغامض للأسرى داخل السجون.

وشكل الأسر نقطة تكافل اجتماعي ووحدة داخل المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 67 ، بفعل الظروف التاريخية وزخم العمل الوطني والفصائلي داخل أراضي عام 67، خلافاً لحال الأسرى الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني؛ فلم يكن لأسرى الداخل، يومها، الدعم الشعبي والجماهيري الذي تحتله قضيتهم اليوم، ولم يكن هناك جمعيات أسرى أو نادي أسير، وظهرت بوادر هذه الجمعيات فقط في منتصف الثمانينيات، وتحديداً بعد الانتفاضة الأولى، التي شكل اندلاعها نقطة محورية في تشكل الوعي الفلسطيني بالداخل، بدرجة أكبر مما كان عليه الحال في الماضي.

ويقول المؤرخ الفلسطيني، البروفيسور مصطفى كبها، في هذا السياق لـ"العربي الجديد"، إن "المناخ العام (في الداخل الفلسطيني) لم يمتلك في تلك السنوات الاهتمام ولا الوعي الكافي لهذه القضية؛ فعلى سبيل المثال نجد المصطلحات التي استخدمت من قبل السلطات ومن قبل أفراد المجتمع نفسه، تتحدث عن "السجين"، وهي كلمة تشي بأنه سجين كأي سجين آخر (جنائي)، وبالتالي فلا حقوق له كأسير أمني أو أسير حرب".

ويضيف أن العاملين في الحركة الأسيرة في الداخل الفلسطيني لم يتمكنوا من رفع ملف الأسرى في الداخل إلى قمة سلم الأولويات، ولا على رأس أجندة العمل السياسي والوطني للأحزاب المختلفة في الفترة المذكورة. 

وكانت شهادات ذوي الأسرى في الداخل الفلسطيني، وبعض الأسرى المحررين، تحكي عن نوع "من النفور" والابتعاد عن العائلات التي وقع أبنائها في الأسر، فضلاً عن شجب وإدانة انخراطهم في العمل العسكري والفدائي ومطالبة الفصائل الفلسطينية في الخارج والمنظمات المختلفة بعدم "تجنيد أبنائنا" في الداخل بسبب وضعهم القانوني والسياسي، كمن يحملون الجنسية الإسرائيلية.

ويقول شقيق أحد الأسرى من فلسطينيي الداخل، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن أهله عانوا الأمرين خلال فترة أسر أخيه، فمن جهة نكّلت السلطات الإسرائيلية بهم، "وكان مجرد كونك أخ أسير أو قريباً له يعرضك للملاحقة الدائمة والحصار؛ فلا فرص العمل مفتوحة أمامك ولا التعليم العالي. في المقابل، خاف المجتمع في الداخل على نفسه من تبعات التماهي مع قضايا الأسرى في الداخل، من غضب سلطات الاحتلال".

ويرصد شقيق الأسير التحول الكبير في مكانة الأسير في الداخل في مطلع التسعينيات وتعزيز الهوية الفلسطينية، بفعل نشاط حركة أبناء البلد وظهور "القائمة التقدّمية"، برئاسة النائب السابق محمد ميعاري، والتي كانت على صلة وثيقة بقيادات منظمة التحرير. غير أن العمل المنهجي والتوعوي المساند للحركة الأسيرة، أخذ طابعاً مختلفاً كلياً، ولم يعد يقوم على استحياء، وذلك بعد تشكّل "التجمع الوطني" الفلسطيني بقيادة النائب السابق والمفكر عزمي بشارة. وتبنى "التجمع الوطني" الحركة الأسيرة بالكامل، وأبرز دورها في الداخل الفلسطيني وحجم التضحيات التي قدمها أبناؤها، مع وقوعهم في الأسر وما عاناه أهلهم من ورائهم.

وفي هذا السياق، يقول الأمين العام لـ"التجمع الوطني"، عوض عبد الفتاح، لـ"العربي الجديد"، إن ملف الأسرى ليس هو القضية الأساسية، بل إحدى نتائج الصراع، ويتعلق بمناضلين يعاقبون على نضالهم من أجل حريتهم وحرية شعبهم. ويضيف "لقد وقع على أسرى الداخل عقاب مضاعف نظراً لعدم اعتبارهم جزءاً من هذا الصراع؛ فنحن الفلسطينيين في الداخل بتنا اليوم نعتبر الحركة الأسيرة أحد الروابط التي تربطنا بشعبنا الفلسطيني وقضيته؛ اختار البعض العمل العسكري، بينما اختار السواد الأعظم منا العمل السياسي والمقاومة السياسية والشعبية غير العنيفة. وبغض النظر عن صحة خيارهم، إلا أنهم أكدوا وحدة وترابط الشعب الفلسطيني، باعتبار أن الشعب الفلسطيني يعاني تبعات النظام الاستعماري والكولونيالي العنصري الإسرائيلي نفسها".

ويرى عبد الفتاح أن تحرير الأسرى يفترض أن يكون تحصيل حاصل للمفاوضات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، "صحيح أن القيادة الفلسطينية أخطأت في أوسلو ولم تنجح في ذلك، ربما بفعل موازين القوى، لكن المطلوب منها اليوم ألا تتخلى عن هذا الملف بأسره، لأن تحرير الأسرى هو شيء طبيعي في مفاوضات صلح وسلام وليس بطولة، بل هو من أبجديات المفاوضات للتوصل إلى اتفاق سلام وتسوية دائمين".