"فلسطين" لم تعد تغري الإعلام

"فلسطين" لم تعد تغري الإعلام

03 يوليو 2014
القصف على غزة غائب عن الشاشات (CNN)
+ الخط -


فلسطين ليست أولوية إعلامية. فإذا كانت اليوميات الفلسطينية منذ العام 1948 توضع على هامش الإعلام الغربي، فإن أولويات الإعلام العربي اليوم قد تبدّلت أيضاً على ما يبدو. لائحة الأسباب كثيرة، من دون أن يكون أكثرها مبرّراً.


التعاقب السريع للأحداث الاستثنائية في المنطقة، منذ الشرارة الأولى للربيع العربي. الدماء التي تسيل في أكثر من دولة بقيت لأعوام طويلة بعيدة عن التغيرات السياسية (سورية مثلًا). مصالح الفضائيات/ الحكومات في الدول التي شهدت/ تشهد ثورات. الصراع السني ـ الشيعي الذي يبدو أكثر إثارة، أكثر جذباً، وأكثر "مبيعاً" في السوق الإعلامية.
ففيما تشتعل المواجهات في القدس المحتلة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، بقي الخبر الأول على "الجزيرة" هو المعارك في العراق وتقدّم "داعش" فيها، قبل أن تنتقل القناة في بثّ مباشر إلى مراسلتها جيفارا البديري لتعلِم المشاهد بتطور المواجهات في القدس. "العربية" بدورها تؤكّد أنّ "طائرات المالكي إيرانية وليست روسية" ثم تدخل في تداعيات استشهاد المراهق الفلسطيني محمد أبو خضيرة. إنها الأولويات التحريرية الإعلاموـ سياسية للفضائيات الإخبارية. وكل ذلك يحدث بينما يكاد خبر القصف الإسرائيلي لقطاع غزة يغيب عن النشرات، ليصير خبراً شبه عاديّ، ليوميات غزيّة "طبيعية". لكن تجاهل القصف شيء، والترحيب به شيء آخر تماماً.
عزّة سامي مثلاً، نائب رئيس تحرير صحيفة "الأهرام" المصرية تكتب في تغريدة "كتّر خيرك يا نتنياهو، ربنا يكتّر من أمثالك للقضاء على "حماس" أي الفساد والخيانة والعمالة الإخوانية". تغريدة بسيطة، قصيرة، معبّرة، لا تحمل الكثير من عناصر الصدمة. فالتعبئة الحالية في مصر ضد الإخوان المسلمين، تجعل هذا الخطاب خطاباً عادياً. عاديّ لدرجة تبنّي وسائل إعلام مصرية رئيسية الرواية الإسرائيلية للأحداث، لتغرّد قناة cbc مثلاً: "إسرائيل تقصف 12 هدفاً إرهابياً في غزة...".
أما في الإعلام الأميركي، فلا جديد في التغطية. لا خبر عن القصف الإسرائيلي لغزة. حرفياً: لا خبر: "فوكس نيوز" الأميركية تخبر فقط عن تعزيزات إسرائيلية على حدود القطاع، رداً على صواريخ انطلقت من القطاع. "سي إن إن"، تتحدّث في ثلاثين ثانية عن القصف على غزة في رسالة مباشرة من مراسلها في القدس المحتلة بن ويديمان: "القصف جاء رداً على صاروخ أطلق من غزة وأصاب منزلاً في مستوطنة سيديروت، لكن سكان المنزل كانوا في الملجأ، فلم يصابوا بأي أذى". وماذا عن إصابة المدنيين الفلسطينيين (بينهم طفل وسيدة حامل) في القصف على غزة؟ لا شيء، هم غير موجودين.


والصحافة الفرنسية أيضاً
تجاهل وتجهيل الضحية هما السياسة المعتمدة في صحيفتَيْ "ليبراسيون" و"لوموند" الفرنسيتين، الأمر الذي ظهر جلياً من خلال التعاطي مع خبر اختطاف وقتل الشاب الفلسطيني محمد أبو خضيرة. "اندلاع مواجهات في القدس الشرقية بعد مقتل مراهق فلسطيني"، تكتب "ليبراسيون". قتل الشاب ليس الخبر، بل المواجهات. فوق الخبر، بخطّ عريض (جداً) يبقى خبر مقتل المستوطنين الثلاثة يتصدّر الصفحة، وتحته تحليلات كثيرة: إنسانية، وسياسية، وثقافية حول الموضوع نفسه. من هو الشاب الفلسطيني المقتول؟ لا إشارة إلى اسمه على موقع الصحيفة حتى منتصف نهار الأربعاء. مراهق فقط. لا صورة له. فلسطيني آخر. أما في "لوموند"، فتتصدر صور المستوطنين الثلاثة المقالات. يطلون على قارئ الصحيفة مبتسمين، مع التذكير بأن كل أعمال العنف وكل التداعيات على الساحة الفلسطينية اندلعت مع مقتل
المستوطنين.

العين بالعين!
في الصحافة البريطانية بدا التعاطي مع الحدث الفلسطيني أكثر توازناً. "ذي جارديان" حاولت إفساح مجال أمام القصتين: المستوطنون قصة، وأبو خضيرة قصة. فيما عنونت "الإندبندنت": "العين بالعين".
الحدث الفلسطيني إذاً ليس أولوية إعلامية حالية. الروايات المشوّقة العاجلة في أماكن أخرى من قطع رؤوس طوائف تصفّي بعضها، تتخطاه عنفاً وتجعله قابلاً للانتظار والتأجيل في السياسات التحريرية للإعلام الإخباري التلفزيوني والمقروء. هكذا، تُصنَع يوميات الحدث الفلسطيني في الإعلام على الهامش، مستعيداً هوية السردية الفلسطينية نفسها منذ العام 1948: الانتظار والتأجيل. لكنّ الحدث الفلسيطني دائماً ما امتلك اسماً وصورة. وهو اليوم، الفلسطيني محمد أبو خضيرة الذي اعتقله الاحتلال الإسرائيلي وأحرقه حتى الموت، وهو غزة التي تقصف اليوم من جديد بذرائع واهية.

المساهمون