"السينما الهابطة": وداعاً لحرية الاختيار

"السينما الهابطة": وداعاً لحرية الاختيار

22 ابريل 2014
"حلاوة روح".. من يحمينا من السوق؟
+ الخط -

من منّا لا يرغب في مشاهدة "المزيد" من هيفاء وهبي؟

أنا على الأقل أرغب جداً في ذلك. وأعلم أنّ كثيرين غُرّر بهم وشاهدوا مقاطع على "اليوتيوب" أو عبر "فيسبوك" كانت عناوينها من قبيل: "شاهد قبل الحذف"، و"فضيحة هيفاء وهبي"، و"اغتصاب هيفا في فيلم حلاوة روح". وعن فيلم "حلاوة روح" هذا الحديث.

منعت قبل أيام السلطات المصرية عرض الفيلم إيّاه بسبب ما يحتوي عليه من مشاهد "مُخلة بالأخلاق العامة"، وسبقتها دول عربية أخرى في منعه. ولو كانت الحكومة المصرية مؤتمنة فعلاً على أرواح مواطنيها؛ لكان بإمكاني أن أدافع عن قرارها. أمّا والحال على ما نراه من التردي والقذارة فسأعتبر أن الدولة "س" هي من قامت بمنع الفيلم وعليه سأدافع عن قرارها.

في البداية لا بد من الإشارة إلى تفهم موقف المدافعين عن حق الناس في اختيار ما يشاهدونه، وتفهّم حماسة من انبروا لتذكيرنا بأهمية مواجهة الوصاية الأبوية التي تمارسها الدولة على مواطنيها. ويمكن -والسياق هذا- تفهّم استعارتهم مصطلحات جورج أورويل، وذكرى الأخ الأكبر، وزمن الفاشيات التي حكمت أوروبا في أواسط القرن العشرين. لكن وكما أنّ مهاجمي مَنْع الفيلم ينطلقون من فكرة أنّهم لا يدافعون عن "حلاوة روح" على وجه الخصوص؛ لا بد لي من أن أقول أنا أيضاً إنّ النقاش هنا لا ينطلق من حقيقة أن "حلاوة روح" فيلم قذر وضار.

"الثقافة باعتبارها صناعة" مفهوم صاغه المفكران الألمانيان ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وقصدا به مجموعة من الشركات الضخمة التي تنتج الأفلام، وبرامج الراديو، والصحف، والمجلات، لتستهلكها أغلبية الشعب.

وما يقوله هذان المفكران هو إنّ الثقافة باتت سلعة. وفي زمن تقديس السلعة وتصنيمها لم يعد الأمر بحاجة إلى مبدع "مختلّ اجتماعياً" لينتج عملاً فائق البراعة، ولا إلى "مجنون" ينعزل عن الناس لسنوات، قبل أن نستمع لاحقاً إلى موسيقاه الخالدة.

باتت الثقافة، وخاصة الموسيقى والأفلام، صناعة لها خط انتاج، تماماً كصناعة السيارات. ومن بين عشرات الأفلام التي تُنتج سنوياً؛ بالكاد يلاحظ المرء الفوارق بينها. إلا من تنويعات في الأشكال، والأسماء، والأحجام. فكلها في النهاية إثبات لحقيقة "التشابه" الذي تفرضه قوالب خط الإنتاج ذاك.

ليست المشكلة فقط في احتكار الشركات الكبرى (كـ"السبكي" في مصر) لإنتاج الأفلام، بل وأيضاً في وهم حرية الاختيار الذي يتم التعامل به مع منتجات هذه الشركات. فالمتابع العادي يتوهّم أنه فعلاً يختار الفيلم الذي يتفرّغ لمشاهدته. مع أنك إن حاولت التدقيق في الأمر، فستجد أنّ الشركة المنتجة للفلمين الذين اخترت أحدهما؛ هي نفسها، بل ربما يكون المنتج/ المخرج لكلا الفلمين واحداً، فهل في هذا الأمر حرية اختيار فعلاً؟

وفي سياقات كهذه يكثر الحديث عن الذائقة العامة، وفكرة أنّ الجمهور يعرف ما هو أفضل له. وهنا يحضرني اقتباس لأورويل يقول فيه: "إن ثمة أمل، فهو معقود على العامة". نعم، الناس البسطاء يملكون من القدرات الإدراكية ما يكفل لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم تجاه ما تمارسه السلطة من قمع مختلف الأشكال. لكن هل يملكون فعلاً آليات دفاعية تجاه ما يمارسه رأس المال؟

عندما يتم تسطيح و"تتفيه" الذائقة العامة على مدار سنوات، وعبر سيل من الأعمال التي تسلّع النساء (مثلاً)، وتضعهن في خانة منشط شهواني للرجل، أو تلك الأعمال المحرضّة على الاستهلاك، والزاجّة بالأطفال في سياقات جنسية؛ حينها قد يستقيم أن "تكون هيفا مضرب مثل في الجرأة"، وهدفاً (حزيناً) للرقيب. ويصبح "حلاوة روح" هو الشغل الشاغل لجمهور السينما الضائق بتدخلات السلطة فيما يشاهد.

تُعدّ مصر واحدة من أكثر الدول التي تُساء فيها معاملة النساء، ونقرأ في كل يوم (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) عن حالات مقززة من التحرش الجنسي. فهل السبب في ذلك أفلام من نوعية "حلاوة روح"؟

ربما يكون الاستسهال والتبسيط قرين الحديث عن الظاهرة والآفة، لكن هذا لا ينفي أن هذا النوع من الأفلام، إضافة إلى الأغاني المصورة الشبيهة والحاثة بشكل أو بآخر على التحرش، سبب رئيس في انتشار الظاهرة واستفحالها.

لكن الخطر الآخر المسكوت عنه هنا هو أن هذه الأفلام رديئة القصة، متهافتة الحبكة، تعمل (من حيث تدري) على خلق جيل غير قادر على طرح الأسئلة المناسبة. جيل تقوم السينما الهابطة، والموسيقى الهابطة، والكتاب الرديء، بتلقيمه الأجوبة الجاهزة التي لن يقوم بعدها بطرح أية أسئلة تتعلق بالعالم حوله، أو بمصيره، أو مغزى وجوده، أو عن أسباب تعاسته.

طرح الأسئلة الصعبة والبحث عن إجابات لها هو واحد من أهم أهداف الإنتاج الثقافي. فأي قيمة لعمل ثقافي لا نخرج منه بأسئلة أكثر من الإجابات التي كنا نملكها قبله؟

حرية الاختيار أمر أساسي ومن دونه نفقد البقية الباقية من إنسانيتنا. لكن هذه الحرية لا تكون حقيقة دون حرية الإنتاج. على أنّ حرية الإنتاج لا تُقاس بمقدار ما ننفق من نقود، ولا برصيد حسابنا في البنوك، ولا بعدد القنوات التي تروّج لما ننتجه.

المساهمون