في سبب الإبادة الجماعية ومسار مفهومها

في سبب الإبادة الجماعية ومسار مفهومها

17 مايو 2024

فلسطينية تبكي فقدان أقارب لها استشهدوا في دير البلح وسط قطاع غزّة (11/5/2024 الأناضول)

+ الخط -

خلصت مقرّرة الأمم المتّحدة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، فرانشيسكا ألبانيز، في تقريرها الذي استعرضته أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة في جنيف، في مارس/ آذار الماضي، إلى وجود "أسباب معقولة للاعتقاد بارتكاب اسرائيل جريمة الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين في غزّة". وفي توضيحها طابع هذه الإبادة تقول: "هي مرحلة تصعيدية لعملية محو استعمارية استيطانية طويلة الأمد تهدف إلى محو الشعب الفلسطيني... على مدى أكثر من سبعين عاماً". وافقت خُلاصة هذا التقرير قرارَ محكمة العدل الدولية، الصادر في أواخر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي (2024)، الذي أقرّ توفّر أُسس معقولة لاعتبار ما تقوم به إسرائيل، في حقّ فلسطينيي قطاع غزّة، من أفعال الإبادة الجماعية، وعلى ضوء ذلك طالبت المحكمة إسرائيل باتخاذ مجموعة من التدابير المُؤقّتة لمنع ارتكاب الأعمال التي تحظرها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وذلك استناداً إلى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل بهذا الخصوص.

جاءت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها جزءاً من عملية التقنين النشطة التي شهدها المجتمع الدولي، الذي كان يتشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، سعياً منه إلى تجريم الأفعال الوحشية والفظائع، التي ارتُكبت خلال الحرب في حقّ الإنسان والجماعات العرقية المختلفة، سيّما تحت وطأة فظائع "الهولوكست". وقد استهلّ هذا المجتمع المُنعتق من سنوات الحرب أولى خطواته المُتعطّشة إلى تحقيق العدالة و"إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب"، بتأسيس مؤسّسة دولية (الأمم المتحدة) كلّفها مهمة تعزيز خطاب حقوق الإنسان عالمياً.

بعد سنوات، ستواجه هذه "العدالة" سلسلة احباطات متكرّرة على المستوى الحقوقي الإنساني، فقد كان القرن العشرون، لاحقاً، مليئاً بفظائع الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في كمبوديا والبوسنة ورواندا. فيما لم يكن القرن الحادي والعشرون أفضل حالاً، فمنذ 7 أكتوبر (2023) تمارس دولة الاحتلال الإسرائيلي عملية إبادة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الفلسطينيين، من دون أن يكون لقرار محكمة العدل الدولية، آنف الذكر، أيّ أثر لوقف هذه المقتلة، وفي ظلّ وطأة المأساة واستمرارها، وتوحّش مرتكبها، وحالة العقم التي تعاني منها العدالة الدولية، صار مُجدياً الرجوع خطوةً إلى الوراء، لمعاينة المشهد من زوايا أخرى؛ تستعرض إحداها المفهوم الفقهي الواسع للإبادة الجماعية الذي كان سيكون أكثر فاعلية، من ذاك الذي تضمنته نصوص اتفاقية منع الإبادة الجماعية، فيما تعيد زوايا أخرى تحوير السؤال من البحث في أسباب استمرار ارتكاب الإبادة إلى سبب حدوثها في المقام الأول، وهو ما ستناقشه هذه المطالعة.

إعادة تقييم

تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في ديسمبر/ كانون الأول عام 1948، أوّل معاهدةٍ دوليةٍ في مجال حقوق الإنسان، بهدف "تحرير البشرية من هذه الآفة" التي يُدينها العالم المُتمدّن. تعهدت الدول الأطراف في نصّ المادة الأولى بمنع الإبادة والمعاقبة عليها، سواء ارتُكبت في زمن السلم أو الحرب باعتبارها جريمةً بمقتضى القانون الدولي، فيما أوضحت المادة الثانية ماهية الإبادة الجماعية، إذ تعني "التدمير الكليّ أو الجزئيّ لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية" تنفذّ بارتكاب أحد الأفعال الآتية ممثلة بـ"قتل أعضاء من الجماعة" و"إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة" و"إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً" و"فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة" و"نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى". وهو بطبيعة الحال النصّ الذي استندت إليه دولة جنوب أفريقيا في دعواها القضائية المرفوعة ضدّ إسرائيل.

في المقابل، قدّم القانوني البولندي، رافائيل ليمكين، مُبتكر مفهوم الإبادة الجماعية، تصوّراً فقهياً أكثر شمولاً من ذاك الوارد في الاتفاقية، فهو يكشف اللثام، في الفصل التاسع من كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة" (1944)، عن الأبعاد العديدة التي تطويها مظلّة مفهوم الإبادة الجماعية، فالمفهوم الذي يستقي من اليونانية واللاتينية جذره اللغوي، ويعني قتل جماعة عرقية أو قبيلة ما، لا يقف عند حدود آلية القتل الجماعي الكلي أو الجزئي لهذه الجماعة أو تلك، حسب ليمكين، بل يتجاوزها ليشمل ممارسات وسياسات منهجية تهدف إلى "تدمير الأسس الرئيسة لحياة الجماعات القومية بهدف القضاء عليها، أي تفكيك المؤسّسات السياسية والاجتماعية والثقافية واللغة والمشاعر القومية والدين والوجود الاقتصادي للجماعة القومية... وتدمير الفرد لا لكونه فرداً بل لأنّه ينتمي إلى جماعة معينة"، وبذلك تكون الإبادة موجّهة ضدّ الجماعة بوصفها كياناً لها وجود مادي ومعنوي. في السياق ذاته، يُورد ليمكين نوعاً متمايزاً من الإبادة، تلك التي ترتكب ضمن سياق كولونيالي من خلال أساليب عديدة أهمها: سياسات التمييز العنصري والترانسفير (التهجير القسري) والقتل الجماعي. وبالمجمل يتم تنفيذ الإبادة ضمن مرحلتيْن: الأولى، تقوم على تدمير النموذج الوطني للجماعة المُضطهدَة، والثانية، تتمثّل بفرض النموذج الوطني الخاص بالمضطهِد، سواء مورس على الجماعة المُضطهدَة أم على الأرض التي احتلت وتمّت السيطرة عليها.

تاريخياً، ارتبط مفهوم الإبادة بضرورة ممارسة عملية قتل جماعي لجماعة ما، وذلك حتّى يتسنى إعماله قانونياً، لكنّه في حقيقة الأمر يتعدّى ويتجاوز الفعل المُوجّه ضدّ الوجود المادي الجسدي للجماعة إلى أبعاد أخرى من أشكال الوجود الثقافي والسياسي والاجتماعي والبيولوجي والأخلاقي للجماعة، وبذلك يمكن تحقّق الإبادة من دون إراقة قطرة دم واحدة، وبكلمات أخرى، لا تنحصر مظاهر الإبادة الجماعية في عمليات القتل والتصفية الجسدية لجماعة ما وإن كانت في أغلب الأوقات جزءاً رئيسياً منها. يدفعنا هذا التقليم للمفهوم إلى التساؤل عن سبب استبعاد التعريف الفقهي الواسع، الذي قدّمه ليمكين، قبل تبنّي الاتفاقية، من ذاك الوارد فيها؟

امتلأ القرن العشرون بفظائع الإبادة الجماعية، فيما لم يكن القرن الحادي والعشرون أفضل حالاً

يقدم لنا السياق التاريخي المُصاحب لتبنّي الاتفاقية الإجابة، فقد شهد مفهوم الإبادة الجماعية شكلاً من أشكال المساومة السياسية بين فريقيْن. الأول، تقوده الولايات المتحدة. والثاني، يقوده الاتحاد السوفييتي. وبينما أصرّ الأخير على استبعاد الشكل السياسي من مفهوم الإبادة، كان الأول يستبعد أشكالاً أخرى، منها الثقافية، والأهم الإبادة الحاصلة في سياق كولونيالي. وبهذا نجح كلا الفريقين باستبعاد الوجوه العديدة التي تندرج ضمن المفهوم، وبالتالي القضاء على فرصة التجريم القانوني المترتّب عليها.

تُسلط هذه المساومة الضوء على بُعد آخر يتمثّل بالتفرد المركزي الغربي في صياغة المعاهدات الدولية، وهو ما يجعلها غير فاعلة بالنسبة للدول التي تعاني أو عانت من سيطرة كولونيالية، مما يضمن استمرار هذه السيطرة وعدم ملاحقة الجُناة قانونياً. هذا الواقع أوجد تياراً قانونياً نقدياً من العالم الثالث معروفا بـ "TWAIL" يعمل على تفكيك الخطاب الكولونيالي الذي يتضمّنه القانون الدولي، خطوةً لازمةً للتحرر من هذه السيطرة، والانفلات من لعنة الدوائر المغلقة، التي تُقصي العدالة، وتعطلّها بالنسبة إلى الضحايا، لذلك مثلاً، نجد دراسات مُتعدّدة تبحث في إعادة تقييم اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وتشخص نواحي القصور فيها، ابتداءً من التعريف الذي تقدمه، والممارسات المنهجية المتعدّدة الاستباقية لوقوع الإبادة، التي تستبعدها الاتفاقية من دائرة التجريم، ذلك أنّ بعض القانونيين المتخصّصين في الإبادة الجماعية يُدرجون القتل، وتكديس الناس في أماكن ضيّقة، وسوء التغذية الممنهج، والتعذيب، ومصادرة الممتلكات، وتعريض أفراد الجماعة للإهانة وسوء المعاملة والتدمير المعنوي، ضمن مفهوم الإبادة، ما دام يُرتَكَبُ بشكل منهجي بهدف إضعاف جماعة ما، وهو ما يدفعنا للتفكّر بالزمن الحقيقي الذي بدأت فيه، فعلاً، ممارسة الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين: هل منذ السابع من أكتوبر (2023) أم منذ عام 1948، وذلك في ضوء السياسات الاستعمارية الإسرائيلية الإحلالية الموجّهة ضدّ الجماعة الفلسطينية بهدف إضعافها فتدميرها؟ مع الإشارة في هذا الصدد، إلى أنّ حقل دراسات الإبادة الجماعية لا يُدْرِج ما حصل في حقّ الفلسطينيين في عام 1948، ضمن قائمة الإبادة الحاصلة ضدّ السكان الأصليين في القرن العشرين، فيما تتواتر المراجعات القانونية والتاريخية على توصيف ما جرى من أحداث، والبحث فيها انطلاقاً من إطار نظري ضيّق، من دون العمل على تصحيحه، رغم أنّ قضايا بحثية، مثل الفصل العنصري، والتهجير القسري، والإحلال، تندرج جميعها ضمن إطار سياسات التدمير والمحو الممنهج، أي الإبادة الجماعية.

من بنات الحداثة: الإبادة الجماعية

يُعتبر "الهولوكوست" المُلهم الأساسي لنحت مصطلح الإبادة الجماعية، والمحرّك الجدي لتبني اتفاقية منع الإبادة الجماعية وتجريمها دولياً، وذلك بعد حالة الصدمة التي عاشها المجتمع الغربي على أثر تكشّفها. انبثقت عن هذه الصدمة محاولات أكاديمية لتوصيف ما جرى وفهم أسباب حدوثه في ربوع حضارة التمدن (أوروبا)، فتشكل في ضوء ذلك حقل علمي خاص بدراسات الهولوكوست، ومن ثمّ تأسّس حقل علمي آخر أكثر اتساعاً معني بدراسة الإبادة الجماعية. كلا الحقلين يؤطّران الهولوكوست، نظرياً، ضمن معاداة السامية دافعاً رئيساً لارتكابها، في حين يدعو عالم الاجتماع الإنكليزي من أصل بولندي، زيغمونت باومان، في كتابه "الحداثة والهولوكوست" (نقله إلى العربية كل من: حجاج أبو جبر ودينا رمضان، سلسلة "ترجمان"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، 2019) إلى وجوب إعادة تقييم المنطلق النظري للأكاديميا الغربية في دراستها للهولوكوست، التي تصرّ على تخصيص حقل علمي خاص بها منفصل عن حقل التاريخ، وذلك استناداً إلى فكرة محورها أنّ حصول الهولوكوست لم يكن إلا حالة شاذة في التاريخ الأوروبي وبالتالي فهي تشكّل حالة انقطاع لتاريخ حضارة النور، في حين يذهب باومان إلى التأكيد على أنّ هذا التخصيص للهولوكوست يُخرجها عن خطّ التاريخ الأوروبي العام، وهو ما يؤثّر على كيفية معالجتها نظرياً، فبالنسبة إليه، لم يكن ارتكاب الهولوكوست حدثاً فريداً خاصاً باليهود، ولذلك فهو ليس مُفاجِئاً بقدر ما كان مُنتظَراً ومتوقعاً من الحضارة الغربية، باعتباره من نتائج الحداثة.

تعمد الدولة الحداثية إلى استخدام الإبادة الجماعية أداةً لإعادة الهندسة الاجتماعية للمجتمعات

وإن كان من أبرز سمات الحداثة السطوة المتزايدة للعقل، وإقصاء المرجعية القيمية عن الأفعال، فإنّ إدارة الدولة الحديثة، بجهازها البيروقراطي العقلاني المنفصل عن مبدأ القيم الأخلاقية في ممارساته، هي مرتكزات مُهمّة لتسهيل ارتكاب الإبادة في السياق الحضاري الحداثي بوصفها أداة علاجية لمشكلة قائمة، فالإدارات العقلانية تعمل وفق نظرية البستنة (Gardening) إذ تُصنف المجتمع بين أعشاب نافعة يتمّ الإبقاء عليها، وحشائش ضارّة يتم التخلص منها، أمّا الكيفية فيترك أمر تحديدها إلى الجهاز البيروقراطي للدولة، من متخصصين وعلماء، من دون أيّ مساءلة قيمية للوسائل العلاجية المطروحة، ما دامت النتيجة ستتحقّق، وهو ما يعبر عنه باومان قائلاً: "(في الدولة الحداثية) يتم تشخيص وجود مشكلة ينبغي حلّها، وإن كانت الأداة هي الإبادة، وإن كان المنتج هو الموت". وهو في هذا السياق، يشير إلى أنّ الفِكَر التي أدّت إلى مأساة معسكر أوشفيتز النازي لم تختفِ، والتدابير التي اتُّخذت بعد ذلك غير فعّالة لمنع تكراره، لذلك كله، فإنّه ليس من المستغرب وقوع المأساة مرّة أخرى، بل مرات لا نهائية.

وهو ما يتفق معه المُفكّر العربي عبد الوهاب المسيري، في كتابه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" (2002)، الذي يرصد فيه آثار عمليات الترشيد المستمرة للإنسان ضمن منظومة الحداثة الغربية، والتي تخلق انساناً أداتياً يعمل ضمن منظومة بيروقراطية تقوم على أُسس المهام الموزّعة مسبقاً، فيؤدّي كلّ شخص العمل الموكل إليه من دون محاكمة قيمية لهذه المهام. وقد تطوّرت هذه المنظومة مع عقلنة العلم وتوظيفه ضمن معادلات حسابية لحلّ المشاكل التقنية، ثمّ المجتمعية، التي تُعامل بمثابة مشاكل تقنية، ومن هذه النقطة، بالذات، برزت عمليات الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي ومعسكرات الاعتقال "باعتبارها حلولاً عقلانية لمعالجة مشاكل معينة... فالإنسان الذي عملت هذه الحضارة على تحويله إلى شيء يمكن التخلص منه إذا ما أثبت أنّه غير فعال أو عبء".

وجهٌ آخر للسيطرة

تعمد الدولة الحداثية إلى استخدام الإبادة الجماعية أداةً لإعادة الهندسة الاجتماعية للمجتمعات، وبالعادة تمتاز الممارسات الاستباقية لفعل الإبادة بأنّها ذات طابع عنصري، ويقول باومان إنّ الإبادة "عملية تهدف إلى تأسيس نظام جديد أفضل، تستلزم خلالها ممارسة الاحتواء أو بالأحرى الإقصاء لجميع العوامل الهدامة"، ذلك أنّ الهندسة الاجتماعية تُقسم الحياة الإنسانية إلى حياةٍ نافعة ذات قيمة، يُحتفظُ بها، وحياةٍ غير نافعة وعديمة القيمة، يُتَخلَّصُ منها. يمكننا إعمال هذا الإطار النظري ضمن السياق الكولونيالي في طبيعة العلاقة ما بين المستعمِر والمستعمَر، فيسعى الأول إلى إقصاء الآخر الأقلّ قيمة وعزله تمهيداً لإزالته بواسطة الإبادة، وهو ما يقدّمه الطبيب النفسي الفرنسي من أصول أفريقية، فرانز فانون، في كتابه "معذّبو الأرض" (1961)، عند تشريح تركيبة العلاقة في العالم المُقسّم الذي يخلقه النظام الاستعماري، باعتبارها علاقة قائمة على الإحلال، أي إحلال نوع إنساني محلَّ آخر. فيما تتكئ الإبادة الحداثية على العِلْم الذي أصبح "أداةً خارقةً تسمح لمن يمتلكها بأن يغيّر الواقع وإعادة تشكيله وفق تصوّرات وخطط بشرية (وضعت بشكل مسبق)"، تمهيداً لتحقيق نموذج الكمال الذاتي إذ يُقتَلُ الإنسانُ بشكل "آلي فاتر، فيما يعتبر القتل عملاً إبداعياً وليس هداماً"، وفي السياق الفلسطيني- الصهيوني فإنّ تدمير الجماعة الفلسطينية بكلّ مكوناتها، المادية والمعنوية، ليس أمراً عشوائياً، بل من خلال تنفيذ نهج إقصائي إحلالي بغية تحقيق يوتوبيا الدولة اليهودية، نقيةَ العرقِ إعمالاً "لوعد الربّ لليهود في أرض الميعاد، أرض العسل واللبن". وذلك كناية عن التصور المادي الحداثي للفردوس الأرضي الذي في سبيله تُراق الدماء وتُنتهك القيم والقوانين وتُسخّر التكنولوجيا لتنفيذ لوحة قتل "جمالية" بالغة التطور والدقّة، مع هامش "بسيط" للخطأ في عمليات القتل (!)

المطلوب أكثر من احتفالية

في قرارها الصادر عام 2015 قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار التاسع من ديسمبر/ كانون الأول يوماً دولياً لإحياء ذكرى ضحايا جريمة الإبادة الجماعية، وتكريمهم، ومنع هذه الجريمة، وفاءً للضحايا الذين حصدتهم الإبادة على مرّ السنوات. استندت الجمعية العامة في قرارها المُشار إليه إلى قراراتها السابقة الصادرة عام 1946 وعام 1948، وقرارات أخرى لاحقة، هدفت جميعها إلى التأكيد على منع الإبادة الجماعية، إذ تُحيا ذكرى الضحايا من خلال فعّاليات احتفالية يقوم بها مكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، مع تكريس معارض افتراضية وواقعية تستعرض بعضاً من قصص الضحايا وممتلكاتهم الشخصية.

ومع هذا، لم تُفلح منظومة الأمم المتحدة في منع الإبادة الجماعية، فمنذ تبني الاتفاقية قُتل ملايين الناس في إبادات يندى لها الجبين، وفيما يُعتقد بأنّ المأساة ستتكرّر لعلة مفادها أنّ هذه المنظومة تستمر في منع الإبادة الجماعية انطلاقاً من ذات الإطار النظري الضيّق، فإنّ المأساة ستصبح أكثر فظاعة في عصر تطوّر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهو ما يعززه بالفعل التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية الشهر الحالي عن قيام جيش الاحتلال الاسرائيلي بتوظيف نظام الذكاء الاصطناعي المُسمى "لافندر" لتحديد 37 ألف هدف فلسطيني مُحتملٍ، نجم عنه بالمحصّلة قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين المدنيين وتدمير منازل كاملة بساكنيها.

المطلوب اليوم تفكيك صانع الإبادة الجماعية، ومستخدمها وراعيها، أي الدولة القومية الحداثية

من جهة أخرى، فإنّ مراجعة الاتفاقية المذكورة بشكل منفصل عن المنطلقات الحضارية الغربية تجعلها مراجعة منقوصة غير مثمرة، سيّما أنّ "الإبادة" أداةٌ تستعملها الدولة الحديثة، التي احتكرت لنفسها وسائل العنف والقهر، وبالتالي فإنّ المطلوب ليس إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية، ولا الاكتفاء بتفكيك الخطاب الكولونيالي، الذي تتضمنه اتفاقية منع الإبادة الجماعية فحسب، بل الجنوح نحو تفكيك صانع الإبادة الجماعية، ومستخدمها وراعيها، أي الدولة القومية الحداثية، أحد أبرز الوحوش التي أنتجتها الحضارة الغربية وعززت وجودها وحضورها بصياغة مبادئ أساسية في القانون الدولي، أهمها: مبدأ سيادة الدول، الذي في سبيله تستخدم كافة وسائل القتل والعنف الرهيبة، فالتقييد القانوني للمبدأ المذكور قابل للتأويل، وهو ما يعطي الدول هامشاً كبيراً للمناورة القانونية والمادية القهرية في تنفيذ الخطط العسكرية، وإن كان الثمن آلاف الضحايا. وبالتالي، فإنّ المطالبة الناجحة للتخلّص من مأساة الإبادة جذرياً لا تتأتّى إلا بحتمية الانتقال من المطالبة بتحسين ما هو كائن (الدولة الحداثية) إلى هدمه، فإيجاد ما يجب أن يكون، وإن بُني على ركام مُتغوّل عمره يناهز المائتي عام.