إبراهيم عيسى رئيساً للمحاجر والمناجم

إبراهيم عيسى رئيساً للمحاجر والمناجم

16 مايو 2024
+ الخط -

عرفته في بدايات حياته الإبداعية كاتباً للقصّة القصيرة، وصحافياً يحاول أن يصعد على كتفَي الشيخ متولي الشعراوي ببعض تشنيعاته، وقالوا لي إنّ إبراهيم عيسى يَعِدُ الأوساط الأدبية بمجلّة أدبية سوف تهزّ الأوساط كلّها من المحيط إلى الخليج، من أكثر من ربع قرن، وعلى من يجد في نفسه الشجاعة أن يَمدَّه بحوارات أدبية، ولا يهمه أيّ مخاوف من أيّ أحد، شرط أن يُبحر معه ضدّ التيّار، على رأي أديب الشباب محمود عبد الرازق عفيفي، الذي ملأ محطات سكّة مترو مصر الجديدة، عن بكرة خالاتها وعماتها، بمقولته الشهيرة "من يسبح معي ضدّ التيّار؟"، ولا أعرف الآن في أيّ بحر يعوم الحاج محمود عبد الرازق عفيفي.

وأتذكر أنني أعددت حواراً عن مجلة "جاليري 68" ساعتها، وكيف مُوّلت، وعن الأشخاص الفاعلين فيها. أتذكّر منهم الراحل إبراهيم منصور، وساعتها، كنت لا أعرفه شخصاً، أقصد إبراهيم عيسى، وأول ما لفت نظري في مكتبه في مبنى "روز اليوسف"، هي قصّة قصيرة منشورة له في جريدة أخبار اليوم، قصّها من الجريدة وثبتها تحت زجاج مكتبه، وكان من ينشر في جريدة أخبار اليوم، ساعتها، التي كان يشرف على النشر فيها الراحل جمال الغيطاني، يُعدّ من العابرين في فرع القصّة القصيرة للناحية الأخرى من البحر، وراء موسى وهارون، المهمّ أنني ناولته الحوار بعد ما عرّفته بنفسي، ومشيت، ولم أتكلم في أيّ أمر، على اعتبار أنّ كلامي سوف يُفسد عليّ أمر تلك المجلّة الأدبية، التي سوف تُغيّر خريطة الأدب من المحيط إلى الخليج، وليس أمامها أيّ مصالح أو شللية أو تابوهات أو نفوذ من أيّ نوع كان، لأنّ إبراهيم هو الذي سوف يتصدّى لكلّ الخصوم، أي خصوم الحرية والشفافية، والمجلّة أيضاً.

مشت سنة أو سنتين، ودخل إبراهيم إلى حقل الرواية برواية "مريم والتجلّي الأخير"، وماتت المجلّة تماماً في مهدها، وذلك قبل أن يصدر كتبه الفكرية والتنظيرية للدم الذي أراقه الصحابة في معاركهم، بسنوات، كانت الشهرة قد بدأت تزحف بخفّة وراء النجاحات التي حققها الآخرون غرباً وشرقاً، بفضل كتاباتهم، وخاصّة محمد شكري في روايته "الخبز الحافي"، وبأوامر المصادرة، وتعسّف الرقابة، وبأنّها تباع في السوق السوداء بعدما تُرجِمَت إلى اللغات الأجنبية، بالمناسبة، لا أعتبر محمد شكري كاتباً إباحياً أبداً، بل من الموهوبين جدّاً، فقط الرجل كتب بدماء موهبته وخبراته الأليمة، المهمّ أنّ رواية إبراهيم عيسى "مريم والتجلي الأخير"، في ليلتيْن، قد صارت مُصادَرةً، ولا أعرف حتّى الآن لماذا؟، حاول إبراهيم عيسى بعدها أن يكتب الروايات في أذيال الروايات، ولكنّه لم يحدث أن صودرت رواية له، أو التفت إليها أحد، إلى أن عرفت، بعد سنوات، أنّ إبراهيم هو أول من أبلغ عن روايته بنفسه.

مرّت سنوات معدودات، وإذا بإبراهيم يصير رئيساً لتحرير صحيفة الدستور، في إصداريْها الأوّل والثاني، في أوّل تجربة لرئيس تحرير قبل الثلاثين من عمره، وعادة، لا ينال تلك الوظيفة، في مصر، إلا "رجال السلطة"، بعد أن تنال منهم البروستاتة ومرض السكّري وخمس نظارات عمر الواحدة سنوات، وذلك آخر هدية له من السلطة الحاكمة قبل دخول القبر.

بعدما أرضى إبراهيم غروره في رئاسة التحرير، وهو في الثلاثين، لسنوات بتمويل الملياردير ساويرس، وكانت تلك هي عقبته الصعبة، انتقل راوياً إلى سِيَرِ الصحابة، كتابةً وتلفزةً وصحافةً، لأبي بكر ولعمر، رضي الله عنهما، ولو مدّ الله في عمر دولارات جهة التمويل لوصل إلى عقبة بن نافع غرباً، وإلى محمد بن أبي بكر في البهنسا، كانت الصورة قد داعبت خياله، وكانت صورة غيفارا خلف ظهره في "الدستور" ما زال لها بريقها أمام الحمّالات، فجأة انتقل إلى الإعلام منظّراً وثورجياً ومذيعاً وإعلامياً بارزاً، من فوق كوبري قصر النيل في قناة الجزيرة، في عزّ ثورة يناير (2011)، وكانت صحّته أكثر عافية من حصانيْ مدخل الكوبري ومخرجه، فجأة نسي ثورة يناير كاملة، وخطابها، وانتقل إلى قناة الحرّة الأميركية، بعدما مزّق صورة غيفارا وباع "الدستور" وقبض ثمنه، فهل يلقي غيفارا سلاحه بأحراش أميركا اللاتينية بقناة دعائية أميركية توجّه إلى مساكين العالم الثالث؟ ثمّ انتقل بخفّة الواثق إلى عدد من القنوات الأخرى، ولم ينسَ، أيضاً، نصيبه من الإذاعة، ثم عاد لرئاسة تحرير "المقال"، وهي الجنين الأول، قبل أن يتحوّل إلى موقع "تكوين" بسنوات، وكانت لبناته من فقراء مفكّري الأقاليم لتجديد بنيّة الخطاب الديني.

فجأة، ماتت جريدة المقال، فإذا بإبراهيم يحيي أحلامه الأولى في السينما، حينما كان يبيع السيناريو للراحل أحمد زكي، ويرميه الراحل في سراديب فندقه بالهرم، ويقبض إبراهيم ثمنه، فعاد إبراهيم إلى السينما والمسلسلات كاتباً وسيناريست، وممثلاً وكاتب حوار وصاحب رؤية، كي ينتقم من تلك السنوات القديمة، التي لم ترَ فيها كتاباته النور على شاشات السينما أو المسرح أو التلفزيون أو الراديو، حتّى تتويجه بمحاورة الرئيس نفسه شحماً ولحماً، وبعدها، مارس إبراهيم كلّ ما لذّ له وطاب، من أقوال وأفعال، حتّى انتهت به الحال بشهداء غزّة، يفتّش في قبورهم ونيّاتهم، ولا أتذكّر أيّ عمل لم يمارسْه إبراهيم أو لم يرمِ فيه بسهم، اللهمّ إلا رئيس هيئة المحاجر والمناجم، أو مصلحة سكّ العملة.