محمد غازي... صوتٌ وألحان من يافا

05 مايو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- يافا، المدينة العربية ذات الماضي العريق والمعروفة بالبرتقال اليافاوي، كانت مهدًا لنشأة محمد غازي، الذي أصبح رمزًا في الغناء والتلحين بالعالم العربي، متركًا إرثًا فنيًا في فلسطين، لبنان، ومصر.
- غازي، بأدائه المتميز للموشحات والأغاني الوطنية والدينية، وتعاونه مع كبار الفنانين مثل الرحابنة وفيروز، أثبت جدارته في الساحة الفنية العربية، معبرًا عن ارتباطه بقضية فلسطين.
- استمر في تقديم فنه رغم النكبة، محافظًا على إرثه الفني ومعاناة شعبه، وتوفي في 1979 متركًا وراءه مئات الأغاني والألحان، مؤكدًا ارتباطه بيافا وتراثه العربي حتى في مكان دفنه.

قبل مائة عام، كانت يافا واحدة من أجمل المدن العربية، تنبعث من شوارعها رائحة الماضي العريق مختلطة برائحة الموالح والفاكهة فائقة الجودة، وفي مقدمتها البرتقال اليافاوي، الذي كان يصدر إلى مختلف دول العالم. ومع هذه المكانة الاقتصادية، كانت يافا أيضاً عاصمة ثقافية وفنية لعموم فلسطين، إذ عرفت مبكراً المسارح والسينما ومحافل الطرب والغناء، فكانت بيئة صالحة لرعاية موهبة بحجم محمد غازي (1922- 1979)، ابن قرية بيت دجن، صاحب الصوت الصداح النادر، وأحد أعلام الغناء والتلحين في بلاد العرب.

ترك محمد غازي آثاره الفنية في فلسطين ولبنان ومصر، وعرفته الإذاعات العربية مطرباً متمكّناً، يشدو بعيون التراث الموسيقي من أدوار وموشحات، ويؤدي نفائس الغناء العربي بصوته العريض الأخاذ، ليكون أحد البراهين الكبرى على ما منحته فلسطين التاريخية لفنون الغناء والموسيقى.

حين انطلقت أول إذاعة فلسطينية من القدس أواسط الثلاثينيات، كان محمد غازي في طليعة الرواد الأوائل الذين حمل الأثير الفلسطيني أصواتهم إلى الجماهير. ومبكراً، ظهر ميل غازي إلى الألوان الكلاسيكية، والألحان الموروثة عن عبده الحمولي ومحمد عثمان وسيد درويش وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب في عقديه الأولين.

كانت تلك السنوات هي مرحلة التكون والصقل، لكن صفاء فلسطين لم يدم طويلاً، فقد داهمت النكبة ومآسيها كل شيء، واضطر محمد غازي إلى ترك وطنه مهاجراً إلى لبنان، بصبحة صديق عمره المخرج صبري الشريف، لتبدأ الأوساط الفنية هناك في التعرف إليه، ولا تمضي فترة طويلة حتى يستعين به الرحابنة لتدريب فيروز على أداء الموشحات وإلقاء الفصحى.

مثّل التعاون مع الرحابنة وفيروز فصلاً مهمّاً في مسيرة محمد غازي الفنية، فقد أدى بالاشتراك مع جارة القمر عدداً من الموشحات التراثية، ضمن الصورة الغنائية التلفزيونية ضيعة الأغاني، كما أدى معها عدداً من ألحان الرحبانية منها: "الليل أناشيد"، و"العمر مواعيد". في بيروت، صار غازي صوتاً من أصوات الإذاعة اللبنانية.

في عام 1955، زار غازي القاهرة ضمن وفد من الفنانين اللبنانيين. وهناك، طلبت منه إذاعة صوت العرب توقيع عقد للتعاون الفني، متمثلاً في تقديم أغنيات وأناشيد وبرامج. ويبدو أن القائمين على الإذاعة كانوا منتبهين إلى مقدرة غازي على أداء اللون الغنائي الكلاسيكي؛ فحرصوا على أن يسجل الرجل قدراً معتبراً من تلك الأعمال.

وبالفعل، فازت صوت العرب بتسجيلات نفيسة يؤدي فيها غازي أدوار: "يا ما أنت واحشني"، و"أنت فاهم"، و"الفؤاد ليله نهاره"، و"يا حلو قولي"، و"أنا عشقت"، كما سجل موشحات: "يا شادي الألحان"، و"اسقِ العطاش"، و"ودعتها"، و"يا هند رحماك"، و"هاج الحنين"، و"ناعم الخد"، و"بين الدلال والغضب"، وغيرها. ولم تكن صوت العرب لتفوت فرصة تسجيل عدد من الأغنيات الوطنية، فسجل غازي قصيدة "هذه أرضي وهذه بلدي"، وأنشودة "يا شباب العرب"، و"نادى وطني فكنتُ له الجوابا".

قدرة غازي على أداء الألوان الطربية، واهتمامه الكبير بالأدوار والموشحات، لم يكونا على حساب عنايته بالغناء لقضية وطنه السليب، فلم يتوقف طوال رحلته الفنية عن الغناء لفلسطين، وأرضها، ومعاناة شعبها، مختاراً نصوص كبار الشعراء، والقصائد المعبرة عن مأساة الشعب. ومن أهم هذه الأمثلة، غناؤه قصيدة شاعر فلسطين إبراهيم طوقان: "كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء ولا العويل.. وانهض ولا تشك الزمان فما شكا إلا الكسول.. واسلك بهمتك السبيل ولا تقل كيف السبيل.. ما ضل ذو أمل سعى يوما وحكمته الدليل".

لحن غازي هذا الاستهلال بأسلوب بسيط رشيق، يسرد الحكمة سرداً، لكنه لم يلبث كثيراً حتى جذبته الطريقة الطربية، بدءاً من الكلمات التالية: "أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن.. وقعدت مكتوف اليدين تقول حاربني الزمن". قد يشعر المستمع بأن اللحن لم يكن معبراً بقدر كاف عن معاني القصيدة، لكن في كل الأحوال، كان صوت غازي منساباً رائقاً بدرجة تجبر أي نقص تلحيني.

والحقيقة أن كثيراً من ألحان غازي يبدو متأثراً تأثراً واضحاً بالروح المصرية، وتتشابه معظم جملها بجمل لعبد الوهاب أو رياض السنباطي. ويمكن للمستمع أن يلمس هذا الجانب بنفسه إذا أنصت مثلاً إلى غناء غازي رباعيات الشاعر علي محمود طه، ليجد التأثر الكبير بموسيقار الأجيال، بل قد يميل إلى تقارب بعض الجمل التلحينية مع أجزاء من قصيدة "الكرنك". لكن إذا انتقل المستمع إلى أغنية اضحك للدنيا، فسيكاد يجزم بأن الملحن والمغني هو محمد فوزي.

ومن الصفحات المهمة في غناء محمد غازي، تلك الأغنيات الدينية التي أداها بضراعة وخشوع، وكأنه شيخ مبتهل متمرس بالغناء الصوفي، وهو ما يمكن أن نرده لبدايات النشأة، إذ حفظ غازي القرآن صبياً في كُتاب الشيخ مصطفى عباس، وتعلم أصول التجويد، كما اشتهر بين طلاب مدرسته بحسن تلاوة القرآن الكريم. ومن أعماله الدينية، يمكن أن نشير إلى أغنيات:

"يا سامعاً نجوى الضمير"، و"يا رب قلبي اطمئن"، و"رباه زدني من لدنك معارفا"، و"يا كعبة"، التي صاغها موفق شيخ الأرض، وتتحدث عن رحلة الحج، التي يردد الكورال مطلعها: "يا كعبة الحق القويم.. جئنا بشوق نرتجي.. حجا إلى البيت العظيم"، ليدخل بعدها غازي بصوت قريب من أداء المنشدين الدينيين المصريين: "جئنا على رجع الندا.. جئنا جنودا للهدى.. جئنا نزور المسجدا.. ونمجد الله الحكيم".

شارك غازي بغنائه في كثير من الصور الإذاعية الغنائية، ومن أشهرها سلسلة قصص العرب من تأليف عبد الجليل وهبي، وألحان وإخراج توفيق الباشا، ومن حلقاتها: أبو العلاء المعري، وأبو العتاهية، وابن المدير، والابنان وأبوهما، والرجل الزاهد، والشعراء الثلاثة، والضيف البخيل، والعلم في الكبر، والمتعلم والأمي، وبين طائرين، ولقمان بن مخزوم. اتسمت حلقلت هذا المسلسل بأنها غنائية كلها، ولا تتضمن أي مقاطع تمثيلية، فيمكن اعتبار غازي بطلاً وحيداً لهذا العمل.

كان محمد غازي مرجعاً فنياً في التراث العربي، وكان حافظاً للتراث الموسيقي الغنائي الخاص بالقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومرجعاً لموشحات وأدوار وقصائد الشيخ السيد الصفتي، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عثمان، وسيد درويش، وعبده الحمولي، وداود حسني. كما لحن وسجل بصوته العديد من الموشحات والقصائد والأغاني القديمة والجديدة والمجددة، واعتبِر ظاهرة فريدة لكونه واحداً من أقدر الموسيقيين المطربين في تاريخ الغناء العربي الحديث.

حين رزق الشيخ عبد العزيز حسين أبو شاويش بابنه الذكر الوحيد، منحه اسماً مركباً: محمد غازي، ولما حفظ الابن القرآن، لم يكن الأب متحمساً لأن يحترف ابنه الغناء والموسيقى، لكن موهبة غازي كانت أكبر من تحجب أو تمنع، حتى لو كان هو الذكر الوحيد على ست بنات. وكانت الفترة بين عام الميلاد وعام النكبة 26 عاماً، استطاعت خلالها يافا أن تصوغ فنانها الكبير، وأن تهدي للعرب صوتاً فريداً ومطرباً مقتدراً، يصفه الملحن الفلسطيني رياض البندك في مذكراته بأنه من أقدر المطربين الذين مرّوا في تاريخ الغناء العربي المعاصر.

في 13 إبريل/ نيسان من عام 1975، اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، فتوارى غازي عن الأنظار منزوياً في غرفة في بيت في إحدى ضواحي بيروت، حتى رحل في عام عام 1979عن 57 عاماً. رحل وحيدا، لم يتزوج ولم يترك خلفه سوى إرث فني مهمّ ومئات الأغاني والألحان. كما أصر على ن تكون شاهدة قبره متوجهة نحو مدينته التي هُجّر منها؛ يافا.

المساهمون