مع غزّة: ياسين عدنان

13 مايو 2024
ياسين عدنان
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتب المغربي يعيش حالة من الألم والعجز بسبب العدوان على غزة، معبرًا عن قلقه تجاه الصمت العالمي والتواطؤ الغربي، ويؤكد على تأثير الأحداث على حياته اليومية والإبداعية.
- يشدد على ضرورة العمل في مجالات السياسة، الإنسانية، والإبداع لدعم القضية الفلسطينية، مستخدمًا منصته لفضح السياسات الغربية وبناء خطاب يكشف التزوير الغربي.
- يعبر عن عجزه عن توجيه الكلمات لأهل غزة والطفلة دارين البيّاع، داعيًا العرب لبناء سردية داعمة لفلسطين والتأكيد على أهمية الصمود والمقاومة في وجه الظلم.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء.



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- منذ بداية العدوان على غزّة، يسكنني إحساسٌ جارفٌ بالألم والعجز واللّاجدوى. وإلّا tما معنى أن يصل عدد شهداء غزّة إلى ما يزيد عن 35 ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال والمدنيّين العُزّل ونحن نواصل حياتنا وكأنْ لا شيءَ يحدُث؟ هناك مظاهرات في مختلف العواصم شرقًا وغربًا، لكنّها لا تكفي. يشغلني أنّ ضمير العالم الحرّ لم يَصْحُ بعد، لكنّه لن يظلّ نائمًا إلى الأبد. فآلاف الأوروبيّين والأميركيّين لا يُصدّقون أنّ كلّ هذا القتل يتمُّ بمُباركة حكوماتهم العاجزة حينًا والمُتواطئة في معظم الأحيان، لكنّني مقتنع بأنّ هذا العجز المُتواطئ الجبان لن يدوم أبد الدهر. أحدسُ أنّ المستقبل سيقلب الطاولة على حاضرنا المُخزي قريبًا.


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- من الصعب أن يواصل المرء حياته بصورة اعتياديّة في ظلّ هذا القتل المجّانيّ الشنيع. لهذا مثلًا، ومنذ تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، انخرطتُ في مقاطعة عدد من البضائع والماركات التجارية المشبوهة. توقّفتُ عن متابعة دوريات كرة القدم، خصوصًا الأوروبيّة. انقطعتُ عن التردّد على قاعات السينما، بل حتى عن مشاهدة الأفلام في البيت. لم أحضر مثلًا الدورة الأخيرة من "مهرجان مرّاكش الدولي للسينما"، أنا المواظب على هذا الموعد الفنّي. وقاطعتُ مسلسلات رمضان. مع العلم أنّ الأمر لا يتعلّق بقرارات صادرة عن تفكير وسابقِ تدبير، بقدر ما هو عزوفٌ نفسيٌّ تلقائيٌّ وجدتُهُ يستبدُّ بي، ولعلّهُ أضعفُ التضامن.

علينا مُقارعة كلّ هذا التزوير والتبرير بخطابات ناقدة

إلى أيّ درجة تشعر أنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- بقدر ما أرتاب من الكتابة المتسرّعة التي لا تستطيع أكثر من الصُّراخ ولا تذهب أبعد من الشعار، أرى أنّ للأدب الأصيل دورًا أساسيًّا في صياغة الوجدان العام عربيًّا ودوليًّا. فنحن اليوم في أمسِّ الحاجة إلى القصيدة والأغنية والرواية والمسرحية، لا لكي تلعب دور الشاهد فحسب، بل من أجل بناء المعنى وصياغة الوجدان. ثم إنّنا إزاء سردية صهيونية غربية تحاول إلغاء الوجود الفلسطيني من التاريخ والجغرافيا. والأدب حاضنٌ أساسيٌّ للذاكرة. وهو بهذا المعنى مؤهّل للمساهمة الجدّية في حرب السرديات هذه، ولا غنى عنه لمقاومة آلة المحو الاستيطانية.


لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- هذه ليست مجالات محايدة في الواقع، وإنّما هي جبهات، وكلّها ذات أهمية. ما نحتاج إليه هو الإخلاص فقط. العمل السياسي الصادق مطلوبٌ اليوم، ليس دوليًّا أو عربيًّا فحسب، بل فلسطينيًّا أيضًا. والعمل الإنساني حين يغيب صدقُ الطوية سرعان ما يتحوّل إلى الوجه "الإحساني" للهيمنة. وفي المجال الإبداعي أيضًا نحتاج إلى مَن يُخلِص للأدب وجمالياته بقدر إخلاصه للقضية التي تشغلنا جميعًا. وإلّا، فكلّ هذه الجبهات ضرورية من أجل الدفاع عن المعنى وعن الإنسان. 


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- العالم محكومٌ بموازين القوى. لذا، لا أترقّب أدنى تغيير ما لم نمارس ضغطًا لتحقيق نوع من التوازن. فسياسةُ الكيل بمكيالين صارتْ واقعَ حالٍ، ولم تعد تثير حفيظة أحد. لذا، وفي ما يخصُّني، حوَّلتُ دفّة بودكاست "في الاستشراق" الذي أقدّمه على منصّة "مجتمع"، من برنامج فكري أكاديمي إلى مجالٍ للنّبش عن جذور هذه السياسة الغربية وفضح مركزيتها الطاغية، ولممارسة التمحيص النقدي والفحص البلاغي لخطابات المثقّفين الغربيّين المتصهينين. ولقد حرصنا في أكثر من حلقة على طرح قضية فلسطين وأحداث غزّة باعتبارها امتحانًا لضمير الغرب. ونحن شُهودٌ اليوم على السقوط المُدوّي للنخبة الفكريّة الغربيّة في امتحان الضمير.

 
شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟

- رموز الماضي عرفناهم وتَغنَّينا بما يكفي ببطولاتهم. وكم أخشى على نفسي، بل أخجل من لقائهم. ربّما الشخصية التي أتوق إلى لقائها أكثر هي من المستقبل. كم تمنّيتُ لو قُدّر لي السفر إلى المستقبل لألتقي مِنْ بني جلدتنا من يُطمئنني إلى أنّ الجسم العربي لا يزال حيًّا وقادرًا على المقاومة، وأنّ الكرامة قد استعادت دلالتها في قاموسه.


كلمة تقولها للنّاس في غزّة؟

- أيُّ الكلمات نجرؤ اليوم على قولها للنّاس في غزّة؟ وإلى مَن مِنهم سنتوجّه بالحديث؟ إلى أزيد من 35 ألف شهيد قُصِفوا أمام أنظارنا المعلّقة بحياد مؤسف أمام شاشات التلفزيون؟ أم إلى النّاجين الذين أخطأهم بطش الجلّاد لكي يُزجّ بهم في سجن شاسع بلا ماء ولا طعام ولا سكن ولا دواء؟ أيّ الكلمات تجرؤُ أن تصِفَ لحظة التحوّل الكارثي من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى أكبر مقبرة جماعية مفتوحة على المزيد من الهلاك؟ أليس القتل أرحم من موت كهذا؟ اسمح لي إذن أن أعتذر؛ فأنا عاجز عن رفع عينيَّ لا في هؤلاء ولا في أولئك. فكيف أتجاسر لأوجّه الخطاب إليهم؟ رحم الله أهلنا في غزّة، الأحياء منهم قبل الأموات.


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- الحرب على غزّة وفلسطين في جزْءٍ منها حربُ خطابات وسرديات. لذا علينا أن ننصرف إلى إنتاج خطابٍ جادٍّ تتصالح داخله الكلمات مع دلالاتها. علينا مُقارعة كلّ هذا التزوير والتَّبرير المُراوِغ لسياسيّي الغرب وإعلاميّيه بخطابات ناقدةٍ تُمارس الفحص البلاغي لمقولاتهم، تكشف مغالطاتها المنطقية، تُفكِّكها وتُحاجِجُها بعُمق. لا شكّ في أنّ التظاهر يوميًّا ضدّ هذه الإبادة مطلوب من طرف العموم، لكنّ النخبة الفكرية مُطالَبةٌ أساسًا بالاشتغال بجدٍّ لبناء السردية والخطاب. وهذه مهمّة شاقّة طويلة النفَس، إنّما لا مَحيد عنها، ولا بُدّ من الانخراط فيها بوعي وأناة.


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- مرّة أُخرى، لن أجرؤ على توجيه أيّة رسالة مباشرة إلى دارين. أنا آسف. لكنّ صوت دارين يجبّ أن يتردّد عميقًا داخل وعينا الإبداعي أثناء الكتابة. دارين هي صوت الحاضر والمستقبل الذي سيتردّد صداه طويلًا ضدّ حرب الإبادة التي تفضح الوجه الدموي البشع للصهيونية وحلفائها في الغرب والشرق. دارين رمزٌ لهشاشة الكائن من جهة، ولقُدرَتِه الجبّارة من جهة أُخرى على الصمود.



بطاقة

كاتب وشاعر مغربي من مواليد 1970 في آسفي ويُقيم في مرّاكش. يشتغل في مجال الإعلام الثقافي، ويقدّم حاليًّا بودكاست "في الاستشراق" على منصّة "مجتمع". من إصداراته في الشعر: "رصيف القيامة" "دفتر العابر" و"ناي الأندلسي"، وفي القصّة: "فرح البنات بالمطر الخفيف"، وفي الرواية: "هوت ماروك"، وفي الرحلة: "مدائن معلّقة". أصدر رفقة الشاعر عبد اللطيف اللعبي أنطولوجيا للشعر الفلسطيني الراهن باللغتين العربية والفرنسية.

مع غزة
التحديثات الحية

 

المساهمون