أوروبا التي تمحو ذاتها: هل تتحوّل إلى "عالم ثالث"؟

24 ابريل 2024
من تظاهرة مطالبة بوقف تسليح الكيان الصهيوني أمام البرلمان البريطاني، لندن، 17إبريل (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا تُنذر بتحول القارة الأوروبية إلى فضاء خاضع ومستسلم، مما يهدد هويتها السياسية، الحضارية، والثقافية.
- الثقافة الاستهلاكية الأمريكية تغزو المجتمعات الأوروبية، مما يؤدي إلى تمزق المواطن الأوروبي وفقدانه لهويته وجذوره الثقافية والحضارية.
- التبعية السياسية والثقافية لأوروبا تجاه الولايات المتحدة تُسرّع في امحاء الذاتية الأوروبية، مما قد يؤدي إلى تحول أوروبا إلى "عالم ثالث" بالنسبة لأمريكا، وفقدانها لمكانتها الحضارية والثقافية.

في شكل العلاقة الراهنة التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على دول الاتحاد الأوروبي إنذارٌ مُبكّر لتزعزع أوروبا وانهيارها، سياسياً، وحضارياً وثقافياً. وفيها ما ينذر بأنَّ أميركا صارت تتعامل مع هذه القارّة على أنّها فضاء شبيه بذلك الفضاء العربي الخاضع، والمستسلم وقائياً، بشكل شبه كامل.

ففي ظلّ نمط الثقافة الاستهلاكي الذي يغزو المجتمعات الأوروبية، والذي تنتجه الرؤية الأميركية للعالَم، يعيش المواطن الأوروبي اليوم في أوج تمزّقه، مقيّداً بثقافة الاستهلاك، ومنقاداً بشكل أعمى وراء ثقافة الإعلام الأيديولوجية والمُوجَّهة، ووراء ثقافة التقنيّة القائمة بحدِّ ذاتها، والتي تقتلع الإنسان الأوروبي من جذوره وتطيحه في هاوية العبث وعدم اليقين.

من يعِش في المجتمعات الأوروبية اليوم، يُدرك كيف يتحوّل مواطنوها إلى دُمى تلهو بها تقنية الآلة. وها هو هذا المواطن يلهث ليلاً نهاراً كي يلحق بوتيرة "التقدُّم" الآلي الأميركي، لكنه مع ذلك يشعر بالعجز أمام وتيرتها السريعة، بسبب عدم قدرته على اللحاق بها. الأمر الذي يُسبّب، شيئاً فشيئاً، بنقله إلى حالة اجتماعية وثقافية مُختلفة، حالة أشبه بشعور العجز. وأمام هذا العجز وعدم القدرة يبدأ التشوُّه: يفقد هويته، ويتخلّى عن شخصيته، ويتحوّل إلى قنبلة موقوتة تنفجر حولها ولا تترك إلّا الأشلاء والركام. 

امّحاء الذاتية الأوروبية يكاد يكون شبيهاً بامّحاء الذاتية العربية

نموذج الثقافة الأميركية في الحياة وأنماط التفكير وأساليبها آخذٌ في تغيير هوية الإنسان الأوروبي الحضارية والثقافية، لدرجة أنه لو سألت اليوم في المجتمعات الأوروبية، تمثيلاً لا حصراً، ما هي أشهر أعمال غوته أو ثربانتس، لوركا أو رامبو، بيلاثكس أو غويا، مقارنةً مع أحدث أفلام "الأكشن" الأميركية، أو أحدث ألبومات مغنّي "الراب"، فسيكون الجواب بأن الأسماء الثانية هي التي يعرفها المواطنون الأوروبيون. لا شكّ في أن هذه "الثقافة" الاستهلاكية والتقنية التي تروّجها الولايات المتحدة الأميركية في أوروبا آخذة في تغييب هوية أوروبا بالمعنى الحضاري للكلمة.

لا يختلف الأمر كثيراً في السياسة، فها هي أوروبا تُشارك الولايات المتحدة رؤيتها للعالَم ولأحداثه، سواء في أوكرانيا، أو في غزّة، أو في سورية أو في اليمن، أو في ليبيا أو في معظم المناطق الساخنة. مَن تُعلن أميركا الحرب عليه، تُسارع أوروبا إلى معاداته وإعلان الحرب عليه أيضاً. وما تريده الرؤية الأميركية والصهيونية، تراه دول الاتحاد الأوروبي. فهل في هذا التغييب والطمس والمحو السياسي والثقافي والحضاري للذاتية الأوروبية من قبل الولايات المتحدة مقدّمات لتحويل الفضاء الأوروبي إلى "دول عالم ثالث"؟

قد يكمن أحد أسباب غياب العرب سياسياً وحضارياً وثقافياً في امّحاء الذاتية التي تُمارسها مجموعة من العوامل، في مقدّمتها الطغيان السياسي والديني، والاستعمار. وفي هذا ما أدّى إلى امّحائه، للمفارقة، جماعياً، وفردياً. إنّ عملية المحو التي تُمارسها الولايات المتحدة الأميركية للذاتية الأوروبية ستؤدّي، حتماً، في نهاية إلى المطاف، إلى تحويل أوروبا إلى "عالم ثالث" بالنسبة لأميركا، وطمس ذاتيتها، على غرار الذاتية العربية الذائبة، وبالتالي إلى غياب أوروبا حضارياً وثقافياً وفكرياً.

* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا
 

آداب وفنون
التحديثات الحية

 

المساهمون